ميكروبات مُراوِغة تُعِيد هيكلة شجرة الحياة

مواضيع مفضلة

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2019

ميكروبات مُراوِغة تُعِيد هيكلة شجرة الحياة

ميكروبات مُراوِغة تُعِيد هيكلة شجرة الحياة

تثير مجموعات غامضة من العتائق، المُسماة على اسم الإله «لوكي» وغيره من مخلوقات الأساطير الإسكندنافية، جدلاً بشأن أصل الكائنات الحية المعقدة، ومن بينها البشر.
تريسي واطسون

ILLUSTRATION BY FABIO BUONOCORE
كل أسطورة تحتاج إلى وجود محتال بارع. وفي هذا الصدد.. لا يتفوق الكثير من المحتالين على الإله الإسكندنافي «لوكي» Loki، الذي يثير المتاعب ويهين غيره من الآلهة، ويتسم بطبيعته المراوِغة، وغموضه، ونزوعه إلى إحداث الفوضى. وبعبارة أخرى.. إنه
الاختيار المثالي لتسمية مجموعة من الميكروبات التي تُعِيد كتابة قصة بالغة الأهمية عن جذور الحياة المبكرة، ألا وهي «عتائق لوكي» Lokiarchaeota.
تنتمي هذه الميكروبات الجامحة إلى فئة من الكائنات الحية أحادية الخلية، تُسمى «العتائق» archaea، تشبه البكتيريا تحت المجهر، لكنها تختلف عنها في بعض الجوانب، بقدر ما يختلف البشر عنها. اكتُشفت «ميكروبات لوكي» - مثلما تُعرف أحيانًا - عن طريق تحديد تسلسل الحمض النووي لطين قاع بحر، جُمع بالقرب من جرينلاند1. وتدفع تلك الكائناتُ الحية، ومعها بعض الميكروبات ذات القرابة منها، علماءَ الأحياء نحو إعادة النظر في واحد من أعظم الأحداث في تاريخ الحياة على وجه الأرض، ألا وهو ظهور حقيقيات النواة، وهي مجموعة الكائنات الحية، التي تشمل جميع النباتات، والحيوانات، والفطريات، وغيرها الكثير.
قاد اكتشاف العتائق، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، العلماءَ إلى افتراض أن شجرة الحياة قد تفرعت قبل وقت طويل إلى ثلاثة جذوع أو «نطاقات» رئيسة. وأحد تلك الجذوع أدّى إلى ظهور البكتيريا الحديثة، وأدّى الثاني إلى ظهور العتائق. أما الثالث، فقد أنتج حقيقيات النواة، لكنْ سرعان ما ثار الجدل بشأن بِنْية هذه الجذوع. ويرى نموذجٌ رائد ذو «ثلاثة نطاقات» أن كلًّا من العتائق، وحقيقيات النواة قد تفرّعت من سلف مشترك، لكنْ هناك سيناريو آخر ثنائي النطاق يميل إلى أن حقيقيات النواة قد تفرعت مباشرةً من مجموعة فرعية من العتائق. وحول ذلك.. يقول فيل هوجنهولتز - وهو عالِم أحياء مجهرية بجامعة كوينزلاند في بريزبن بأستراليا - إنه برغم احتدام المناقشات في هذا الصدد في وقت ما، فقد اعتراها الركود في نهاية المطاف، ثم جاءت «ميكروبات لوكي» وقريباتها لتكون بمثابة «نسمة هواء منعشة»، وأَحْيَت من جديد الحجة المؤيِّدة للشجرة ثنائية النطاق.
تحتوي العتائق المُكتشَفة حديثًا على جينات تُعتبر مميزة لحقيقيات النواة. ويشير التحليل العميق لحمض تلك الكائنات الحية النووي إلى أن حقيقيات النواة الحديثة تنتمي إلى مجموعة العتائق نفسها. وإنْ صح ذلك.. تكون جميع أشكال الحياة المعقدة في حقيقتها - بدءًا من الطحالب الخضراء إلى الحيتان الزرقاء - قد نشأت في الأصل من العتائق.                                                     
ولكن ما زال هناك علماء عديدون غير مقتنعين بذلك.. فعملية تحديد بِنْية شجرة التطور مُربكة، ومثيرة للجدل. ولم تُنشر بعد أيّ أدلة تبين إمكانية زراعة تلك الكائنات في المختبر، وهو ما يصعِّب دراستها. ولا يزال النقاش  مريرًا في هذا الصدد.. فعلى حد قول هوجنهولتز، فإنّ مناصِري كل رأي من الجانبين "يحملون عداوة شديدة لبعضهم بعضًا، ويعتقدون جميعهم أن رأي المعسكر الآخر ليس به شيء من الصحة"، بل يرفض بعضهم التعبير عن آرائه؛ مخافة الإساءة إلى زملائه الأقدم. 
وتتمثل القضية هنا في الوصول إلى فهْم أعمق للقفزة البيولوجية التي أنتجت حقيقيات النواة، أو بعبارة أخرى.. "الحدث الأكبر الذي وقع منذ نشأة الحياة"، على حد قول عالِم الأحياء التطورية باتريك كيلينج، من جامعة بريتيش كولومبيا بفانكوفر في كندا. فالتساؤل عن مصدر حقيقيات النواة "هو بمثابة أحد أكثر الأسئلة أهمية في فهْم طبيعة التعقيد البيولوجي"، حسبما يضيف. وللإجابة عن هذا السؤال، "نحتاج إلى إيجاد ردّ على السؤال التالي: مَن تجمعه قرابة بمَن؟". 
من نطاقين إلى ثلاثة نطاقات
في منظور العلماء الذين عاشوا قبل نصف قرن، كانت الكائنات الحية على الأرض منقسمة بين فئتين: حقيقيات النواة (وهي كائنات حية ذات خلايا تحتوي على بِنى داخلية مغلفة بأغشية مثل النواة)، والكائنات بدائية النواة (وهي كائنات أحادية الخلية، تفتقر عمومًا إلى الأغشية الداخلية). كانت البكتيريا هي بدائيات النواة الوحيدة التي عرف علماء الأحياء بها. وفي عام 1977، وصف عالِم الأحياء التطورية كارل ووز وزملاؤه العتائق باعتبارها شكلًا ثالثًا متمايزًا للحياة، يعود تاريخه إلى مليارات السنين2. وحسب تعبير ووز، فإن الكائنات الحية ينبغي تقسيمها بين ثلاثة نطاقات، بدلًا من اثنين.
لم يسلم ووز من المنتقدين، ففي ثمانينيات القرن العشرين، أشار عالِم الأحياء التطورية جيمس لايك - من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس – إلى أن حقيقيات النواة كانت في الأصل شقيقات لعتائق أطلق عليها اسم 3eocytes، ويعني «الخلايا البادئة»، ومن ثم تطورت الفكرة إلى سيناريو ثنائي النطاق.
خاض لايك مع ووز حربًا ضروسًا بشأن نموذجيهما المتنافسَين، بلغت ذروتها في مشادة كلامية شهيرة، وقعت بينهما في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. بعدها، "أعرب ووز عن رغبته في عدم مقابلة جيمس لايك"، على حد قول عالِم الأحياء المجهرية باتريك فورتير، من معهد باستور بباريس. ولا ينكر لايك حدة الخلاف الذي كان متأججا بينهما، حيث يقول: "لقد كان جدالًا كبيرًا بالفعل، ودخل فيه قدر هائل من الاعتبارات السياسية". وقد توفي ووز في عام 2012.
أما في يومنا الحاضر، فقد صار النقاش الدائر بشأن مصدر حقيقيات النواة أكثر تعقلًا، إذ يتفق كثيرون من كلا الجانبين على أن أصل حقيقيات النواة ربما ينطوي على خطوة تُعرف باسم «التعايش الداخلي» endosymbiosis. وتنص تلك النظرية - التي دافعَتْ عنها عالمة الأحياء الراحلة لين مارجوليس - على أن خلية مضيفة بسيطة عاشت قبل زمن طويل قد ابتلعت بكتيريا بطريقة ما، وكوّنت الخلية المضيفة والبكتيريا علاقة منفعة متبادلة؛ فتطورت تلك البكتيريا الحبيسة - في نهاية المطاف - إلى الميتوكوندريا - وهي البِنى الأساسية الخلوية التي تنتج الطاقة – وشكلَتْ الخلايا الهجينة الناتجة ما يُعرَف الآن بحقيقيات النواة.
أما النقطة التي يسلك عندها كل من المعسكرين طريقًا مختلفًا، فهي طبيعة الخلية المُبتلِعة للبكتيريا. فكما يروى أنصار نموذج الثلاثة نطاقات، فإن الخلية المُبتلِعة كانت ميكروبًا سالفًا، انقرض الآن. ووفقًا لقول فورتير، فقد كانت «نموذجًا أوليًّا لحقيقيات النواة» proto-eukaryote، بمعنى أنها - حسب قوله - "ليست نسخة حديثة من العتائق، ولا من حقيقيات النواة الحديثة". 
ووفقا لهذا النموذج.. كانت هناك تفرعات رئيسة عديدة في مراحل التطور المبكرة. حدث التفرع الأول منذ مليارات السنين، عندما تسببت كائنات بدائية في ظهور كلٍّ من البكتيريا، ومجموعة منقرضة من الميكروبات. وتفرعت تلك المجموعة الأخيرة إلى العتائق، وإلى المجموعة التي شكلت حقيقيات النواة، غير أنه في تصوّر العالم ثنائي النطاق، تَسَبَّب كائن حيّ بدائي في ظهور البكتيريا والعتائق، وكان الكائن الحي الذي ابتلع البكتيريا المصيرية - في نهاية المطاف - من العتائق. وهذا من شأنه أن يجعل جميع حقيقيات النواة فرعًا من فروع العتائق مفرطة التطور، أو أن يجعلها «نطاقًا ثانويًّا»، على حد تسمية بعض العلماء لها. 
 
رسائل مُختلَطة                                                         
دون وجود أرشيف للميكروبات، تكون عملية الاختيار من بين تلك الفرضيات مسألة بالغة الصعوبة. فالسجل الأحفوري لحقيقيات النواة المبكرة شحيح، ونماذجها يمكن أن تكون مبهمة. وينبغي للعلماء أن يعتمدوا، بدلاً من ذلك، على السجلات الموثقة في جينومات الكائنات الحديثة، تلك التي شابها الخلط بدورها مع مرور الزمن. يقول توم ويليامز، من جامعة بريستول في المملكة المتحدة، والمتخصص في علم الأحياء التطورية الحاسوبي: "نحن نحاول حسم حدث وقع غالبًا قبل بضعة مليارات من السنين، باستخدام بيانات تسلسل جيني حديثة". وهذه ليست مهمة سهلة.                                                 
دفعت تقنيات تحديد التسلسل الجيني الحديثة النقاش إلى المضي قدمًا. فحتى وقت قريب، كان على العلماء الذين يسعون إلى تمييز  البكتيريا أو العتائق في موئِل معين أن يستنبتوا الكائنات في المختبر. أما الآن، فيمكن للباحثين تقييم التنوع الميكروبي في عينة من الماء أو التربة، عبر استخراج الحمض النووي، وتحليله باستخدام أدوات الرياضيات، وهي تقنية تسمى «الدراسة الميتاجينومية» metagenomics. وفي عام 2002، عرف العلماء بوجود فئتين أو) شعبتين) من العتائق. أما اليوم، وبفضل  تقنية الدراسة الميتاجينومية، فقد زاد عدد المجموعات بشكل كبير.
سارع علماء التطور بالاستفادة من هذه الوفرة المتزايدة، ووضعوا - باستخدام أحدث تقنيات النمذجة القوية - مخططًا لغابة من الأشجار التطورية، التي تقدِّم تفصيلًا للعلاقات الوراثية بين العتائق. وتُدرِج النتائج - في كثير من الحالات - حقيقيات النواة ضمن رُتب العتائق.
وفي ذلك.. يقول ويليامز: "في منظورنا، انحاز وزن الأدلة - في الواقع - نحو ترجيح كفة شجرة عتائق eocyte ثنائية النطاق"، لكن البعض يرى أن النقاش لا يزال يفتقر إلى البيانات الكافية.
بعد ذلك، في عام 2015، نشرت مجموعة بقيادة تايس إتيما - الذي كان وقتها عالِم أحياء مجهرية تطورية بجامعة أوبسالا في السويد - تسلسلات حمض نووي لكائنات أطلق عليها «عتائق لوكي»، عُثر عليها في رواسب استُخرجت قبل ذلك بخمس سنوات1. وفي غضون عامين، أعلن فريق إتيما وغيره من الباحثين عن اكتشاف ثلاث شُعَب عتائق جديدة، ذات قرابة من «عتائق لوكي»5. وسُميت مجموعة الشعب الجديدة برمّتها باسم «أسجارد»  Asgard، نسبةً إلى مملكة الآلهة الإسكندنافية.                                               
وتتميز «عتائق أسجارد» بأنها ضئيلة الحجم، وإنْ كانت عظيمة الأثر، فقد أعادت تلك العتائق إحياء النقاش من جديد حول عدد نطاقات أشكال الحياة الحقيقي. كما أنها تقدم دلائل مثيرة للاهتمام بشأن طبيعة الخلايا التي أدّت إلى ظهور أولى حقيقيات النواة، في منظور أنصار النموذج ثنائي النطاق على الأقل.
تستعصي «عتائق لوكي» وأقاربها على الوصف السهل، مثلما هو الحال مع الإله «لوكي»، الذي سُميّت على اسمه، ولكْن لا شك أن هذه الكائنات من العتائق، لكنّ الجينوم الخاص بها يتضمن تشكيلة من الجينات التي تشبه بعض الجينات الموجودة في حقيقيات النواة. وعلى سبيل المثال.. يحتوي الحمض النووي لميكروبات «لوكي» على تعليمات جينية للأكتينات، وهي البروتينات التي تُشكل إطارًا شبيهًا بالهيكل العظمي في الخلايا حقيقية النواة. وقد بدت جينات ميكروبات «لوكي» في موضع غريب، لدرجة أن الباحث الذي رصدها تخوَّف - في بادئ الأمر - من أن يكون التلوث قد تَسبَّب في ذلك. وتتذكر هذه التجربة أنيا سبانج - عالمة الأحياء المجهرية التطورية في المعهد الملكي الهولندي لأبحاث البحار بتيكسِل - قائلة: "قلت لنفسي: حسنًا، كيف يمكن أن يحدث هذا؟ هل يُعْقَل أن يكون هذا جينوم عتائق حقًّا؟" 
دعّمت النمذجة التطورية الارتباط الوثيق بين «عتائق أسجارد»، وحقيقيات النواة. وتُدرِج أشجار التطور التي بناها فريق إتيما جميع حقيقيات النواة في مجموعة أسجارد5.
ويَستخدِم العديد من الباحثين في الوقت الحالي بيانات من تلك العتائق؛ بهدف صياغة صورة أفضل لسلف حقيقيات النواة. وربما كان لدى تلك العتائق بالفعل بعض السمات المعتادة في حقيقيات النواة، قبل أن تبتلع سلف الميتوكوندريا. يقول إتيما: "من المحتمل أنّ بعض العمليات البيولوجية الغشائية البدائية للغاية كانت تجرى بها".
ووفقًا لتحليل منشور هذا العام7، ربما يكون سلف «عتائق أسجارد» قد تغذى على جزيئات، أساسها الكربون، مثل الأحماض الدهنية، والبوتان. ومن شأن ذلك النظام الغذائي أن يولِّد منتجات ثانوية، يمكن أن تسهم في تغذية البكتيريا المتكافلة معها. ومن الممكن أن تكون اتفاقيات مشارَكة الطعام تلك - الشائعة بين الميكروبات – قد تطورت إلى علاقة وثيقة بدرجة آكبر. فربما كانت إحدى العتائق قد اقتربت من البكتيريا المتكافلة معها إلى حد الالتصاق بها؛ لتسهيل عمليات تبادل الغذاء، وهو ما أدى - في نهاية المطاف - إلى احتضان هذه البكتيريا بالكامل.
ورغم ذلك.. لا يزال مِثْل هذه السيناريوهات يثير الشكوك. وفورتير من بين أبرز رافضي الاقتناع بها.. فبعد تمحيصه للورقة البحثية عن «عتائق أسجارد»، نشر هو وزملاؤه تفنيدًا8 مستفيضًا لها.
هل المؤشرات خادعة؟
في اتهامٍ، أثار غضب إتيما، اقترح فورتير ومجموعته أن بعض تسلسلات الحمض النووي الشبيهة بتسلسلات الحمض النووي في حقيقيات النواة الموجودة عند «عتائق لوكي» قد نتج عن التلوث، إذ كَتَب فريق فورتير أن أحد بروتينات ميكروبات «لوكي»، ويُدعى «عامل الاستطالة 2»elongation factor 2، كان - في الأغلب - "ملوثًا بتسلسلات أحد حقيقيات النواة"، وإنْ كان فورتير يقول حاليًّا إنه غير متيقن من هذه النقطة. 
وما زال فورتير وزملاؤه متمسكين بانتقاداتهم لأشجار أسجارد التطوّرية، وحتى الباحثون البارعون في رسم الأشجار التطوّرية يقرّون بأنه من الصعب إزالة اللبس عن الطريقة التي كانت ترتبط بها كائنات حية تعيش قبل ملياري سنة ببعضها بعضًا. ويعيد علماء الأحياء رسم تلك العلاقات من خلال نمذجة الكيفية التي تغير بها «مؤشر» معين - عادة ما يكون بروتينًا، أو جينًا - بمرور الوقت عند الكائنات الحية موضع البحث.
وتقول مجموعة فورتير إنّ فريق إتيما قد اختار - عن غير قصد - مؤشرات مضللة لرسم شجرته. وأجرى فورتير ومجموعته تحليلهم الشجري الخاص، باستخدام اثنين من البروتينات الكبيرة كمؤشرات، لأنه من الأرجح أن تسجِّل البروتينات الكبيرة - بحكم حجمها - المعلومات المطلوبة. وكانت النتيجة شجرة ذات ثلاثة نطاقات.
من ناحية أخرى.. يرى إتيما أن المؤشرَين اللذين استخدمهما فورتير غير كافيين لتتبع الأحداث التي جرت منذ أمد بعيد جدًّا. وهو انتقاد وجد صداه لدى علماء آخرين. وعندما حاول فريق إتيما تكرار نتائج فورتير، حتى باستخدام البروتينين اللذين استخدمهما فورتير، كانت النتيجة - رغم ذلك - شجرة ثنائية النطاق، حسب قوله، غير أن إتيما لم ينشر نتائجه بعد.
يُعْزِي إتيما بعض الاختلافات في النتائج بين الفريقين إلى الخلفية التخصصية؛ حيث يقول: "باتريك فورتير عالِم بارع في مجاله، لكنه في حال ميكروبات «لوكي»، قد تخطى حدود خبراته بعض الشيء". أما فورتير، فيقول إنه يتمتع ببعض المهارات في مجال علم تطور السلالات، وإن المؤلفين المشاركين معه في الدراسة يمتلكون مهارات أكثر. 
ومع ذلك.. لا يرفض كل مؤيدي النموذج ثنائي النطاق أشجارَ فورتير. فعلى سبيل المثال.. يؤسس ويليامز حاليًا تصورًا لشجرة باستخدام أحدث الأدوات التحليلية، ويُضمِّن فيها أصنافًا جديدة من العتائق. ويأمل ويليامز في أن يساعده هذا الجهد على فهم بعض نتائج فورتير.
ويحظى نموذج الشجرة ثلاثية النطاق بتأييد حليفٍ رفيع المستوى، هو عالِم الأحياء المجهرية نورم باس، من جامعة كولورادو في بولدر، الذي كان رائدًا في ابتكار بعض المناهج التي كانت أساسية لتصنيف الميكروبات على شجرة الحياة. ويرى باس أنه على امتداد فترات زمنية شاسعة، سوف تتغير بعض المؤشرات بشكل يصعب تتبعه. ويستخدم إتيما وآخرون أساليب إحصائية؛ لتفسير ذلك التغير الخفي، لكنّ باس يرفض تلك الطرق.
يقول باس: "يزعم إتيما وزملاؤه أن بإمكانهم حساب تغيُّر غير مرئي، لكنني أعتقد أن ذلك افتراض سخيف"، لكنّ تلك الأساليب تُستخدم على نطاق واسع. ويعارض إتيما ذلك الرأي بقوله إنه يمكن للعلماء استخدام اختبارات متنوعة؛ لتحديد ما إذا كانت مثل هذه التغيرات تؤثر في بياناتهم، أم لا.
ويمتنع علماء آخرون عن إصدار الأحكام. ومن هنا، أصبحت عبارة «تغُّير الأشجار» بمثابة لازمة متكررة. يقول كيلينج إنه "على الحياد تمامًا". ويتفق هوجنهولتز مع وجهة النظر القائلة إنّ "الأمر لا يزال قيد المداولة"، على الرغم من أن كلا العالِمَين يقولان إنهما يعتقدان أن الأدلة على النطاق الثنائي آخِذه في التزايد.
وفي أثناء انتظار سكون الجدل حول أشجار تطور هذه الميكروبات، بدأ باحثون يحولون اهتمامهم إلى خيوط أخرى من الأدلة، ربما تدعم نموذج الشجرة ثنائية النطاق، إذ تحتوي البكتيريا وحقيقيات النواة على مجموعة واحدة من الدهون في أغشيتهما الخلوية، بينما تحتوي أغشية العتائق على مجموعة مختلفة. وكان من المُعتقد أن مزيجًا من المجموعتين سيكون غير مستقر. وقد مثّل «تشعُّب الدهون» هذا نقطة حساسة لمؤيدي النموذج ثنائي النطاق، لأنه يشير ضمنيًّا إلى أنه إذا كانت حقيقيات النواة قد جاءت من العتائق، فسيتعين عليها التحول من استخدام دهون العتائق إلى إنتاج نُسَخ بكتيرية من هذه الدهون.
هذا.. ولم يَعُد  تشعُّب الدهون يشكل وزنًا، مثلما كان في الماضي. ففي العام الماضي، نجح باحثون هولنديون في تصميم بكتيريا ذات أغشية خلوية تحتوي على دهون عتائق، ودهون بكتيرية، على حد سواء9 . كما عثر علماء على بكتيريا في البحر الأسود تمتلك جينات لصناعة هذين النوعين من الدهون10 .
ومن المحتمل أن تكون ميكروبات «لوكي» قد امتلكت مثل تلك الأغشية المختلطة في أثناء مرحلة الانتقال من العتائق إلى حقيقيات النواة، مثلما تقول عالمة الأحياء المجهرية لورا فيلانويفا، من المعهد الملكي الهولندي لأبحاث البحار، وهي عضو في الفريق الذي درس بكتيريا البحر الأسود.
إنّ تحليلات «عتائق أسجارد» - بما فيها «عتائق لوكي» - تظل محدودة، حيث تقول سيمونيتا جريبالدو، عالمة الأحياء المجهرية التطورية بمعهد باستور: "المُنتظَر حقًّا هو عزل فرد من تلك السلالات". وتضيف قائلة: "نحن بحاجة إلى الإمساك بها، وإلى استزراعها".
وبعض هذه الكائنات يتميّز بعملية أيض متراخية، وببطء في التكاثر، وحسب تعبير إتيما: "ذلك بالتحديد ما لا ترغب في أن يتسم به الكائن الذي تحاول استزراعه".
ولا يعترف سوى عدد قليل فقط من العلماء الآخرين بأنهم قد حاولوا حتى استزراع هذه الكائنات، فعالمة الأحياء المجهرية كريستا شليبر بجامعة فيينا، التي تحاول استزراع كائنات «أسجارد»، تصف هذه العملية بأنها: "أكثر المشروعات جنونًا على الإطلاق، التي تقدمتُ بطلب لتمويلها".
وبقدر ما يمكن لهذه الميكروبات أن تكون مراوِغة، فإن فريقًا واحدًا قد التقط ما أسمّاه أولى صور «كائنات أسجارد». وتُظهِر صور التُقطت لأحد أنواع هذه الكائنات خلايا مستديرة، تحتوي كل واحدة منها على حزمة مضغوطة من الحمض النووي، تُماثِل السمة المميزة لجميع حقيقيات النواة، ألا وهي النواة. إن تلك الصور «مثيرة للاهتمام»، ولكنها غير حاسمة، كما يقول عالِم الأحياء المجهرية روهيت جهاي، الذي يعمل بمركز الأحياء التابع للأكاديمية التشيكية للعلوم في تشيسكي بوديوفيتسه، وهو أحد المؤلفين المشاركين في الطبعة الأولية التي تحتوي على الصور11.
ولا تزال الصورة العامة غير واضحة. ففي الأساطير الإسكندنافية، غالبًا ما ينثر الإله «لوكي» بذور الفوضى، ثم يعيد الأمور بعد ذلك إلى نصابها الصحيح. ومع خروج «عتائق لوكي» وقريباتها إلى النور، فإن مؤيدي النموذج ثنائي النطاق يَعْقِدون الآمال عليها في تسوية النقاش طويل الأمد بشأن أصل الحياة المعقدة، لكنّ هذا قد يستغرق بعض الوقت. تقول سبانج ضاحكة: "عندما اكتشفنا «عتائق أسجارد»، كنا نظن أن ذلك سوف يقنع الجميع، لكنّ الأمر لم يَسِر كذلك".

References

  1. Spang, A. et al. Nature 521, 173–179 (2015).| article
  2. Woese, C. R. & Fox, G .E. Proc. Natl Acad. Sci. USA 74,5088–5090 (1977).  | article
  3. Lake, J. A., Henderson, E., Oakes, M. & Clark, M. W. Proc. Natl Acad. Sci. USA 81, 3786–3790 (1984). | article
  4. Lake, J. A. Nature 331, 184–186 (1988). | article
  5. Zaremba-Niedzwiedzka, K. et al. Nature 541, 353–358 (2017). | article
  6. Seitz, K. W., Lazar, C. S., Hinrichs, K.-U., Teske, A. P. & Baker, B. J. ISME J. 10, 1696–1705 (2016). | article
  7. Spang, A. et al. Nature Microbiol. http://doi.org/gfxrt3 (2019). | article
  8. Da Cunha, V., Gaia, M., Gadelle, D., Nasir, A. & Forterre, P. PLoS Genet. 13, e1006810 (2017). | article
  9. Caforio, A. et al. Proc. Natl Acad. Sci. USA 115, 3704–3709 (2018).  | article
  10. Villanueva, L. et al. Preprint at bioRxiv https://doi.org/10.1101/448035 (2018).
  11. Salcher, M. M. et al. Preprint at bioRxiv https://doi.org/10.1101/580431 (2019). 

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

أرشيف المدونة الإلكترونية

المشاركة على واتساب متوفرة فقط في الهواتف