بأيادٍ واثقة، وثغور مشدودة، يقبضون عليها لاستنشاق سوائلها، ثم لا يلبثون أن يطلقوها دخانًا أبيضَ كثيفًا... إنها السيجارة الإلكترونية، البديل الأحدث للسيجارة التقليدية التي يبدو أنها لم تعد تتناسب وسمات عصر جديد رقمي، يتوافق مع كل ما هو آلي، ويحاول أن ينسجم معه كيميائيًّا أيضًا.
فعلى الرغم من أن السيجارة الإلكترونية أو ما يُعرف أيضًا بـ"أجهزة التبخير الشخصية"، أو "أجهزة النيكوتين الإلكترونية" لا تختلف كثيرًا عن نظيرتها التقليدية تلك المصنوعة من الورق والتبغ؛ إذ يحصل المدخن على جرعة نيكوتين حقيقي، بمجرد أن يسحب نَفَسًا واحدًا منها، إلا أنها تقدم ذلك النيكوتين من خلال سائل محتجَز في وحدة تبخير تعمل بواسطة بطارية، ويتم تسخين هذا السائل عبر خلية تسخين مدمجة بها أيضًا.
ويحتوي بعض أنواع هذه السجائر في طرفها الحر على وسيلة إضاءة، تتوهج باللون الأزرق، أو الأخضر، أو الأحمر؛ لتحاكي نظيرتها التقليدية، وعندما يستعملها المدخنون، تنتج سحابةً من الدخان بيضاء كثيفة؛ كي تقنِعهم تمامًا بأنهم يدخنون سيجارة حقيقية، ليجتمع لهم بذلك تركيبة المتعة ذاتها التي شكلتها سنوات طوال من الخبرة مع التدخين، وتقنيات العصر الإلكتروني وما يحمله من تطورات عصرية.
إقبال متزايد
سرعان ما أصبحت السجائر الإلكترونيّة ذات سحرٍ خاص لدى مدخنيها، وبخاصة فئة المراهقين؛ لأنها من ناحيةٍ أجهزةٌ ذات مظهر جذَّاب، وتتماشى أدواتها مع الموضة، فالشركات المصنِّعة تستخدم قطاعًا ممتدًّا من المواد الكيميائية المختلفة يقدر بالآلاف؛ لمحاكاة نكهة فواكه مثل الفراولة، وحلوى مثل التشيز كيك، وغيرها من النكهات، لذا فليس غريبًا أن ينجذب صغار السن لتجربتها، حتى قبل تجربة السجائر التقليدية.
أصبحت السجائر الإلكترونيّة ذات سحرٍ خاص لدى مدخنيها، وبخاصة فئة المراهقين؛ لأنها من ناحيةٍ أجهزةٌ ذات مظهر جذَّاب، وتتماشى أدواتها مع الموضة credit: CC0 Public Domain
تفيد دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا، في سان دييجو، بأنه كانت هناك أكثر من 288 علامة تجارية من السجائر الإلكترونية على الإنترنت في عام 2012، بعض هذه العلامات التجارية تندرج تحته عدة منتجات. وفي يناير 2014، أي خلال أقل من عامين فقط، زاد العدد ليصبح 466 علامة تجارية. يقول ويلسون كومبتون، نائب مدير المعهد الوطني الأمريكي لإدمان المخدرات في بيثيسدا بولاية ميريلاند، معلقًا على ذلك: "أنا شخصيًّا مذهول من فرط السرعة التي نمت بها سوق هذه المنتجات".
جدل محتدم منذ البدايات
وتُعَدّ السجائر الإلكترونية من أكثر المنتجات الحديثة إثارةً للجدل، فبينما يرى باحثون أنها قد تكون وسيلة جديدة قادرة على الحد من سلوك ضار، تَسَبَّب في وفاة قرابة مئة مليون شخص في القرن العشرين، يخشى آخرون أنها قد ترسِّخ هذا السلوك، وتهدر عقودًا طويلة من الجهد المضني. يقول مايكل سيجل، طبيب وباحث في التبغ بجامعة بوسطن، كلية الصحة العامة، بولاية ماساتشوستس: «تَسَبَّبَت هذه السجائر الإلكترونية في انقسامات حادة بين المنخرطين في مكافحة التبغ. لدينا الآن فريقان متعارِضان تمامًا، دون أي أرضية مشتركة».
يحتوي بعض أنواع هذه السجائر في طرفها الحر على وسيلة إضاءة، تتوهج باللون الأزرق، أو الأخضر، أو الأحمر؛ لتحاكي نظيرتها التقليدية credit: CC0 Public Domain
فمع بدايات ظهورها، روجت بعض التقارير الطبية للسجائر الإلكترونية على أنها أكثر أمانًا من السجائر التقليدية، وأنها قد تكون وسيلةً فعالةً لمن يرغب في الإقلاع عن التدخين. تفيد نتائج دراسة سابقة، حلل خلالها رامتشاندار جوماجي -من جامعة السوربون في باريس- وزملاؤه بيانات جُمِعَت من 5400 مدخن كانوا لا يزالون يدخنون آنذاك، و2025 مدخِّنًا سابقًا، بانخفاض متوسط عدد السجائر القابلة للاحتراق التي يدخنها يوميًّا الأشخاص الذين استخدموا السجائر الإلكترونية بانتظام بمقدار 4.4 سجائر على مدار عامين تقريبًا، مقارنة بـ2.7 سيجارة فقط في أوساط أولئك الذين لم يسبق لهم استخدام السجائر الإلكترونية. وكان عدد المقلعين عن التدخين تمامًا من مستخدمي السجائر الإلكترونية يزيد بنسبة 67% عن غير مستخدميها، وفق نتائج الدراسة ذاتها. ولكن هل يكون للتجربة والواقع "رأي آخر" أو "موقف مغاير تمامًا" لما تروج له شركات السجائر الإلكترونية، أو لما تدلل عليه حتى نتائج بعض الدراسات العلمية؟
تغير سريع ودراماتيكي
"تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"... مَثَل عربي شهير، لكن يمكنه -وبدقة شديدة- وصف ذلك الحدث الدراماتيكي وحالة التغير السريع تلك التى أصابت بعض الولايات المتحدة الأمريكية ودون سابق إنذار، إذ كشف مسؤولون صحيون في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي عن إصابة أكثر من 100 شخص، من ولايات أمريكية مختلفة، بأعراض لأمراض رئوية غامضة ذات صلة بتدخين السجائر الإلكترونية.
والآن هناك أكثر من 450 حالة إصابة بهذه الأعراض، أي أكثر من ضعف الرقم الذي تم الإبلاغ عنه الأسبوع الماضي، وفق إليانا أرياس، نائبة مدير قسم الأمراض غير المعدية في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC).
يقول دانيال فوكس، اختصاصي أمراض الرئة في نورث كارولينا: إن المرضى الذين جرى فحصهم أصيبوا بالتهاب رئوي غير مُعدٍ، يُعرف باسم الالتهاب الرئوي الشحمي، يمكن أن يحدث "عندما تدخل المواد المحتوية على الزيوت أو الدهون في الرئتين".
ووفق ما نقلت صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن التحقيقات الصحية التي أجرتها إدارة الدواء والغذاء الأمريكية رصدت في السجائر الإلكترونية "مادة مضرة" قام الأشخاص المرضى بتدخينها، عبارة عن زيت مستخلص من "فيتامين E"، قد تكون سببًا "محتملًا" لهذه الإصابات، وهي مادة توجد عادةً في منتجات الماريغوانا. وأوضح المحققون أنهم رصدوا هذه المادة لدى كافة المرضى، لكن الخبراء لم يجزموا بصورة نهائية هل هي مسؤولة عن الاضطرابات أم لا. من جانبه، قال قسم الصحة في ولاية نيويورك إن نتائج الاختبارات المعملية أظهرت مستويات عالية جدًّا من زيت فيتامين E في خراطيش القنّب التي استخدمها جميع الأشخاص البالغ عددهم 34 في الولاية ممن أصيبوا بالمرض بعد استخدام السجائر الإلكترونية، ونتيجةً لذلك ركز تحقيقاته في هذا الاتجاه.
ويجري تناول "فيتامين E" -الذي يوجد في عدد من الأغذية مثل زيت الكانولا وزيت الزيتون واللوز- كمكمل غذائي، إلا أنه وبالرغم من فوائده، ثبت أنه يسبب أذىً للجسم حين يجري استنشاقه في أثناء التدخين، بسبب تركيبه الجزيئي. وبالفعل، لقد أبلغ المرضى الذين جرى فحصهم عن أعراض مثل السعال وآلام في الصدر ومشكلات في التنفس.
التحقيقات الصحية التي أجرتها إدارة الدواء والغذاء الأمريكية رصدت في السجائر الإلكترونية "مادة مضرة" قام الأشخاص المرضى بتدخينها، عبارة عن زيت مستخلص من "فيتامين E"، قد تكون سببًا "محتملًا" لهذه الإصابات credit: CC0 Public Domain
في حين، قال القائم بأعمال مدير إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، نيد شاربلس، إن وكالته كانت على دراية بالتقارير، "لكن لم يتم تحديد مادة واحدة، بما في ذلك فيتامين E، في جميع العينات التي تم اختبارها على مستوى البلاد". وكان العديد من المرضى قد أبلغوا عن تعاطي القنب، لكن بعضهم قال إنه استنشق منتجات النيكوتين فقط.
جرى الإبلاغ عن أول حالة وفاة في ولاية إلينوي في أواخر أغسطس. وأعلنت ولاية أوريغون هذا الأسبوع عن أن وفاة مريض في شهر يوليو كانت مرتبطة أيضًا بتدخين السجائر الإلكترونية. وقالت السلطات في ولاية إنديانا إن حالة وفاة حدثت هناك أيضًا، رغم أنها لم تذكر متى حدثت.
واقع مرير وحلول مقترحة
يُبدي المسؤولون الصحيون شكوكًا في قدرة المرضى الحاليين على التعافي التام من اضطراباتهم الرئوية في المستقبل، وهذا يعني أنهم سيتعايشون مع أمراض مزمنة. وقال مسعفون إن العديد من الأشخاص قد تم تشخيصهم خطأً في البداية على أنهم مصابون بالتهاب الشعب الهوائية أو مرض فيروسي، حتى تصاعدت أعراضهم -في بعض الأحيان- إلى مستويات شديدة للغاية. وأخبر والدا كيفين بوكلير -أحد المصابين من فيلادلفيا، ويبلغ من العمر 19 عامًا- إحدى وسائل الأخبار المحلية هناك أن ابنهما وضع في غيبوبة مستحثة طبيًّا (أي مستحثة من قبل الأطباء لغرض طبي معين) قبل ثلاثة أسابيع، وقد يتطلب الأمر إجراء عملية زرع رئة جديدة في حال تعافيه. تعلق والدته ديبورا بوكلير على الأمر بقولها: "أعرف كممرضة أنه قد يموت"، "لذلك نأمل أن تتحسن حالته، وأريد فقط أن يعرف أصدقاؤه وكل هؤلاء الأولاد هناك بالأمر"، مضيفةً: "يمكنني أن أسأل الآباء أن يطلبوا من أطفالهم ألا يفعلوا ذلك".
شون كالاهان، الطبيب الذي عالج بنجاح ألكسندر ميتشل، البالغ من العمر 20 عامًا من بروفو في ولاية يوتا الأمريكية، قال لوكالة الأنباء الفرنسية: "لم أر شيئًا كهذا من قبل". وأضاف: "عندما فحصت أشخاصًا يحملون هذه الأعراض كانوا في حاجة حقيقية إلى دعمهم من أجل الحياة، فهي حالة متقدمة حقًّا، مثل الإنفلونزا أو الالتهاب الرئوي أو المرضى الذين أُضعفت أجهزة المناعة من قِبَل مرض كالسرطان أو من جَرَّاء استخدام العلاج الكيميائي".
كثير من الذين تعافوا تلقوا علاجات الستيرويد (علاجات هرمونية)، على الرغم من أن الأطباء ليسوا متأكدين مما إذا كان هذا هو الدواء الشافي أم لا. كما أن المحققين غير متأكدين مما إذا كانت الحالات قد حدثت مؤخرًا فقط، أو أنها حدثت في وقت سابق ولكن لم يتم ربطها آنذاك بتدخين السجائر الإلكترونية بسبب قلة الوعي والمعلومات.
السجائر الإلكترونية متاحة في الولايات المتحدة منذ عام 2006، وتُستخدم في بعض الأحيان كوسيلة مساعدة للإقلاع عن تدخين منتجات التبغ التقليدية مثل السجائر. ارتفع استخدام السجائر الإلكترونية بين المراهقين بشكل لافت في السنوات الأخيرة. تكشف نتائج استطلاع "رصد المستقبل" لعام 2019 لطلاب الصفوف الثامن والعاشر والثاني عشر على مستوى البلاد، الذى أصدره المعهد الوطنيّ لأبحاث تعاطي المخدِّرات (NIDA) عن اتجاه مراهقي الولايات المتحدة الأمريكية إلى تدخين السجائر الإلكترونيّة بأعداد قياسيّة، منذ عام 2017، إذ تشير نتائج الاستطلاع إلى زيادة مقلقة في معدلات التدخين لدى الفئات العمرية الثلاث. عند سؤال الطلاب عما إذا كانوا قد دخَّنوا السجائر الإلكترونية خلال الشهر الماضي، سجَّل طلاب السنة النهائيّة الثانويّة تَضاعُف نسب تدخينهم خلال سنة؛ إذ ارتفعت هذه النسب من 11% عام 2017 إلى 20.9% عام 2018، كما سجَّل 27.8% من المراهقين أنهم "دخَّنوا السجائر الإلكترونيّة بكافة أشكالها" خلال عام 2017، وهي النسبة التي ارتفعت إلى 37.3% عام 2018.
في إطار البحث عن حلول، وبخاصة فيما يتعلق بفئة المراهقين، تعتبر نورا فولكو -مديرة المعهد الوطنيّ لأبحاث تعاطي المخدرات، في حوار سابق أجرته معها ساينتفك أمريكان- النجاحات السابقة في حملات مكافحة تدخين التبغ نموذجًا لكيفيّة التعامل مع تفاقم مشكلة تدخين السجائر الإلكترونية بين مراهقي الولايات المتحدة، قائلة: "أعتقد أن جزءًا من التحدي يتعلق بكيفية نقل رسالة الآثار السلبيّة المحتملة إلى المراهق بشكل واضحٍ، علينا أن نتعلَّم من التجارب السابقة الناجحة مع مشكلات أخرى، ثم نستنسخ تلك التجارب ونكيّفها مع الظروف الجديدة".
السجائر الإلكترونية متاحة في الولايات المتحدة منذ عام 2006 credit: CC0 Public Domain
وشددت على أنه "بالإمكان تحويل شيء متماشٍ مع الموضة إلى شيء مكروه. كان تدخين السجائر العادية بين المراهقين أمرًا فاتنًا جدًّا في فترةٍ ما في البلاد، والآن ارتفعت كثيرًا نسبة رفض تدخينها، علينا إيجاد طريقة لتوصيل المعلومة إلى الأطفال الذين لن تؤثر فيهم الحُجج التي قد تقنع البالغين"، مؤكدةً أنه بإمكاننا بثّ رسائل وقائيّة في هذا الإطار، وموضحةً "أن مجموعة من أذكى العقول تجتمع كي تحدد كيفيّة جذب الأطفال لشراء هذه المخدّرات، وبالنسبة لهذه الحملات (الوقائية) فمن المهم جدًّا أن يُسهم فيها الذين تشملهم حملات الترويح هذه، مع الأخذ في الاعتبار التنوع الكبير في هذه الفئة".