بيوجيوكيمياء: التُّرَب وتغيُّر المناخ

مواضيع مفضلة

الخميس، 12 سبتمبر 2019

بيوجيوكيمياء: التُّرَب وتغيُّر المناخ

خُزِّن الكربون في الطبقات العضوية لتُرَب الغابات الشمالية لمئات السنين، لكنْ هناك تحليلٌ جديد يكشف أنَّ هذا الكربون قد ينبعث في الغلاف الجوي مع زيادة وتيرة الحرائق الهائلة، الناتجة عن الاحترار العالمي.
كورنيليا رومبل

الشكل 1 | حرائق هائلة في الغابات الشمالية الكندية. حلل ووكر وزملاؤه5نوع الكربون المفقود من الترب العضوية تحت أشجار التنوب الأسود بعد الحرائق في غابات المناطق الشمالية الغربية بكندا.
الشكل 1 | حرائق هائلة في الغابات الشمالية الكندية. حلل ووكر وزملاؤه5نوع الكربون المفقود من الترب العضوية تحت أشجار التنوب الأسود بعد الحرائق في غابات المناطق الشمالية الغربية بكندا.
FOCUS/EYEVINE

تلعب الغابات الشمالية دورًا رئيسًا في دورة الكربون العالمية، لكونها تُخزِّن من 30% إلى 40% من الكربون الأرضي1. ولطالما عُدَّت هذه الغابات أحواضًا للكربون، لاسيما أنَّها تُرَاكِم كمياتٍ كبيرة من الكربون في صورة تُربٍ عضوية2. ويتأثر صافي رصيد الكربون في ترب هذه الغابات بالحرائق الهائلة الطبيعية (الشكل 1)، التي يَنتُج عنها انبعاث كمياتٍ كبيرة من الكربون كل 70 - 200 سنة تقريبًا3، والتي تُعَد أيضًا ضروريةً للحفاظ على إنتاجية هذه الغابات، وتنوعها الحيوي، لكنَّ التغيُّر المناخي ربما يُقصِّر المُدد بين الحرائق (الفواصل الزمنية بين اندلاع حريق وآخر)، عن طريق التسبب في رفع درجات الحرارة، وزيادة معدلات حدوث صواعق البرق، وإطالة مواسم الحرائق الهائلة، وزيادة الجفاف في تلك الغابات عن المعدلات الحالية4. وفي بحثٍ نُشرَ مؤخرًا في دورية Nature، يوضح ووكر وزملاؤه5 أنَّ زيادة وتيرة الحرائق قد تُحيل الغابات الشمالية من أحواضٍ للكربون إلى مصادر له.
يرجع السبب في هذا التحول إلى تأثير زيادة وتيرة الحرائق على الكربون المتوارَث؛ وهو الكربون العضوي، الذي فلت من الحرائق السابقة، وتراكَم في سطوح ترب الغابات الشمالية. تعمل أي غابة من تلك الغابات الشمالية حوضًا للكربون، إذا ما أزال حريقٌ كميةً من الكربون المُخزَّن في التربة أقل من الكمية التي تراكمت بعد الحريق السابق له، أو - بعبارةٍ أخرى - إذا كان الكربون المُزال من التربة بفعل الحريق أحدث من مجموعة الأشجار التي تأثرت بالنيران.
لجأ ووكر وزملاؤه إلى نهجٍ مبتكر لدراسة أصل وعُمْر الكربون الذي كان مُخَزّنًا في التربة، وأُزيل منها أثناء الحرائق التي اندلعت في غابات أشجار التنوب الأسود خلال عام 2014، في الأقاليم الشمالية الغربية من كندا. وقدّروا كمية الكربون التي كانت موجودةً قبل الحرائق وبعدها في طبقات التربة العضوية التي تغطي الترب المعدنية في 211 موقعًا في تلك الغابات، كما قدّروا انبعاثات الكربون الناتجة عن احتراق المواد العضوية فوق سطح الأرض وتحته في تلك المواقع. وحلّلوا كذلك في 32 موقعًا من تلك المواقع وفرة النظير المشع «الكربون-14» في التربة العضوية على أعماقٍ مختلفة، لتحديد عمر الكربون المتأثر بالحرائق. كشف هذا النهج المعتمِد على دراسة التربة فقدان الكربون المتوارث في الغابات الحديثة بالمناطق الجافة، في حين ظلت الغابات القديمة في المناطق الرطبة تُراكِم الكربون في سطوح تربها.
وعن طريق تمحيص نوع الكربون تحديدًا المفقود من التربة (هل هو متوارث، أم غير متوارث)، بدلًا من مجرد قياس إجمالي الانبعاثات، عزّز ووكر وزملاؤه فَهْمنا للآليات الكامنة وراء كيفية تأثير النيران على قدرة الغابات الشمالية على القيام بدور حوضٍ للكربون على مستوى المنطقة. ويُسلِّط عملهم الضوء أيضًا على أهمية الأخذ في الاعتبار مخازن الكربون الأرضي الموجودة تحت سطح التربة، لفهْم كيفية استجابة النظام الإيكولوجي للتغيُّر المناخي.
تشير نتائج ووكر وزملائه إلى أنَّ بعض الغابات الشمالية على وشك الوصول إلى نقطة تحول في قدرتها على الصمود أمام النيران، وهي نقطة ستتغير بعدها وظيفة تخزين الكربون في هذا النظام الإيكولوجي. وهذا الأمر مثار قلقٍ شديد؛ ليس فقط لأنَّه سوف يزيد معدل انبعاث ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، لكن أيضًا بسبب الفوائد المتعددة لهذه الغابات. فالغابات الشمالية هي أكبر الموائل الأحيائية الأرضية، التي تؤوي بعضًا من أكبر مناطق الغابات السليمة في العالم، التي لم يمسسها أي تدخُّلٍ خارجي، فضلًا عن تفرُّدها من حيث تنوعها الحيوي. وبالإضافة إلى ذلك.. هي مصدر لمنتجات الأخشاب، وتسهم إسهامًا كبيرًا في جودة الهواء في العالم، وضبط المناخ، لكنَّ فقدان الكربون، وانحسار الترب العضوية بفعل الحرائق سوف يغيِّران هذا النظام الإيكولوجي، وسوف يتسببان في عواقب غير معلومة.
على سبيل المثال.. قد تغيِّر زيادة وتيرة الحرائق تركيب الأنواع الموجودة في المنطقة، وتنوعها الحيوي، وسوف تؤثر - على الأرجح - على خصوبة التربة، نتيجة إزالة الكربون. ومن ثم، يمكن أن تصبح الغابات الشمالية أقل إنتاجيةً مما هي عليه في الوقت الحالي، وأكثر عرضةً لضغوطٍ أخرى، مثل هجمات الحشرات، وحالات الجفاف، التي يُرجح أن تصبح أكثر تواترًا مع تغيُّر المناخ. وهذه التأثيرات سوف تُضْعِف بدورها وظيفة الغابات الشمالية كحوضٍ للكربون، وتؤثر سلبًا على اقتصاديات البلدان التي تعتمد على صناعة الاحتطاب. ونظرًا إلى الصعوبة الشديدة للتكهن بطبيعة هذه التغيرات، ومواقعها، وتوقيتاتها، تمثل هذه التأثيرات تحديًا للقائمين على الغابات وصناع السياسات6.
تبرهِن دراسة ووكر وزملائه على وجود صلةٍ وثيقة بين الترب، والمناخ. ويشير المؤلفون إلى أنَّ زيادة وتيرة الحرائق في الغابات الشمالية تتسبب في دائرةٍ مغلقة من التأثيرات المتبادلة المتفاقمة.. فارتفاع معدل اندلاع الحرائق يعني تأثُّر الغابات الأصغر سنًّا، مما يزيد احتمالية انبعاث الكربون المتوارث من التربة (على افتراض عدم تغيُّر شدة الحرائق). لقد ظل الكربون المتوارَث معزولًا لمئات السنين، وسوف يؤدي انبعاثه إلى زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وبالتالي تسريع التغيُّر المناخي.
تخصّ تأثيرات الحرائق الهائلة التي يشير إليها ووكر وزملاؤه الترب العضوية، التي راكمت كمياتٍ كبيرة من المواد العضوية، لأنَّها كانت محميةً من التحلل الميكروبي، بفعل انخفاض درجات الحرارة، أو ارتفاع مناسيب المياه الجوفية، أو كليهما معًا. تنتشر هذه الترب على نطاقٍ واسع في المناطق الشمالية، لكنَّها موجودة كذلك في المناطق المعتدلة والاستوائية7. وهذه الترب العضوية، التي تحتوي على نسبةٍ من الكربون تزيد على 20%، تختلف كثيرًا عن الترب المعدنية الفقيرة نسبيًّا في الكربون، التي تقع تحت سطح معظم الغابات والأراضي العشبية في المناطق المعتدلة والاستوائية.
وسوف تؤدي الاضطرابات - مثل زيادة درجات الحرارة، والحرائق - إلى فقدان كمياتٍ أكبر بكثير من الكربون من الترب العضوية في المناطق الشمالية، مقارنةً بالترب المعدنية في المناطق المعتدلة والاستوائية7. ويُعزى هذا إلى أنَّ نسبةً كبيرة من المواد العضوية في الترب المعدنية محمية من التحلل الميكروبي، بفضل تفاعلها مع معادن التربة، وهو ما يحفظها مع ارتفاع درجات الحرارة، وأيضًا إلى أنَّ الترب المعدنية ضعيفة في قدرتها على توصيل الحرارة، ما يحمي عادةً المواد العضوية من النيران. ومع ذلك.. إذا انحسرت طبقات الترب العضوية في الغابات الشمالية في المستقبل، فسوف يتعين إيلاء مزيدٍ من الاهتمام إلى الكربون العضوي في الترب المعدنية الواقعة تحتها.. فالترب المعدنية تحت الغابات الشمالية تخزن كمياتٍ كبيرة من الكربون6، لكنَّ ووكر وزملاءه لم يأخذوا ذلك في الاعتبار في تحليلهم.
ونظرًا إلى تناقض العمليات التي تحمي الكربون في كلٍ من الترب العضوية والمعدنية، هناك حاجة إلى استراتيجياتٍ مختلفة لإدارة دور تلك الترب كأحواضٍ للكربون. وبالنسبة إلى الترب العضوية، سيكون من الضروري الحفاظ على انخفاض درجات الحرارة، وارتفاع نسب الرطوبة، وزيادة متوسط الفترات الزمنية بين الحرائق4. وسيتطلب ذلك خفضًا فوريًّا وجذريًّا لانبعاثات غازات الدفيئة من جميع قطاعات المجتمع، لتقليل الزيادات في تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، والتغيُّر المناخي إلى الحد الأدنى. ومن أجل تحسين دور الترب المعدنية كأحواضٍ للكربون، ينبغي اعتماد ممارساتٍ مستدامة في إدارة الغابات، والنشاط الزراعي. وفي كلتا الحالتين، يتوجب رفع الوعي بفوائد الكربون المُخزَّن في التربة، والتعاون على جميع المستويات بين جميع مَن يستخدمون الترب، وأولئك الذين قد تؤدي أنشطتهم إلى إلحاق الضرر بها.

إرسال تعليق

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

أرشيف المدونة الإلكترونية

المشاركة على واتساب متوفرة فقط في الهواتف