من المحتمل أن بعض النجوم التي تتحرك بسرعة كافية للهروب من المجرة سببها فئة لم يسبق رصدها من قبل من الثقوب السوداء متوسطة الكتلة
لا ينفك علماء الفلك عن التفكير في كيف يمكن لبعض النجوم –التي تُدعى النجوم فائقة السرعة– تجاوُز حدود السرعة في مجرة درب التبانة، بل وتتحرك بسرعة كافية للهروب من مجرتنا تمامًا. تم اكتشاف أول نجم مطرود من المجرة في عام 2005، وكان يتحرك بسرعة تصل إلى حوالي ثلاثة ملايين كيلومتر في الساعة –وهى سرعة كافية للطيران من مدينة نيويورك إلى لوس أنجلوس في أقل من خمس ثوان. إن مساره –على غرار العديد من النجوم فائقة السرعة الأخرى التي تم العثور عليها لاحقًا– يمكن تتبُّع نقطة بدايته إلى المنطقة المجاورة لثقب أسود كامن في مركز المجرة تبلغ كتلته ما يعادل أربعة ملايين كتلة شمسية، أي أنه وحش هائل الكتلة لديه أكثر من الوزن الكافي للإلقاء بنجم بتلك السرعة الهائلة. غير أن هناك نتائج جديدة من مركبة الفضاء "جايا"، التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، التي تقوم برسم خريطة لمجرة درب التبانة، وغيرها من المشروعات، تشير بأصابع الاتهام إلى سبب آخر؛ إذ ربما تكون فئةٌ لم نرها من قبل من الثقوب السوداء، مسؤولةً عن بعض المهاجرين من مجرتنا.
أحد النجوم فائقة السرعة، والمعروف باسم PG 1610+062، هو المحفز لأغلب الجهود البحثية. في الواقع لا يتحرك هذا النجم –الذي رُصد في البداية في عام 1986، ولم يثر رصده ضجةً كبيرة- بسرعة كبيرة بما يكفي لمغادرة مجرتنا. في عام 2015، أدرك علماء الفلك الذين يدرسون هذا النجم دراسة روتينية أنه قد جرى تصنيفه على نحوٍ خطأ، وأنه في الواقع يلمع لمعانًا أكثر سطوعًا من المتوقع، إذ تَبيَّن أن النجم PG 1610 يقع على مسافة أبعد من التقديرات السابقة. بالاقتران مع أحدث بيانات الرصد التي قدمتها مركبة "جايا"، فإن المسافة الجديدة التي يقع عليها النجم بيّنت أن مسار النجم لم يمر مطلقًا بمركز المجرة حيث كان يمكن للقائه مع الثقب الأسود فائق الكتلة الواقع هناك أن يكون قد أكسبه سرعةً أكبر.
ويقول بعض الباحثين إن السبب الأرجح لزيادة سرعة النجم PG 1610 هو ثقب أسود متوسط الكتلة (وبدلًا من ذلك، يقترح آخرون أن نجمًا فائق الكتلة يمكنه أداء المهمة نفسها). ولا تزال الثقوب السوداء متوسطة الكتلة شيئًا نظريًّا، إذ لم يجرِ رصد أيٍّ منها بشكل مباشر على الإطلاق، غير أن النجم PG 1610 ونجومًا أخرى مثله قد تساعد في تغيير هذا الأمر. يقول أندرياس إيرجانج، من جامعة فريدريش ألكساندر في إرلانجن-نورمبرج بألمانيا، وهو المؤلف الأول لورقة بحثية جديدة لا تزال في مرحلة ما قبل الطباعة، يُعلن فيها عن النتائج، وستُنشر في دورية "أسترونومي آند أستروفيزيكس" Astronomy & Astrophysics:"يمكن للنجوم الهاربة أن تكون وسيلةً جيدةً للعثور على تلك الثقوب السوداء متوسطة الكتلة".
النجم الهارب
إن النظرية الأساسية لأصول النجوم فائقة السرعة تقول إنها بدأت حياتها في مدار ضيق حول نجم قرين بالقرب من مركز المجرة. ووفق النظرية، فقد انجرف النجم القرين مقتربًا بشدة من الثقب الأسود فائق الكتلة، الذي انتزعه وأسره، مُطلقًا سراح النجم الآخر ليطير بعيدًا بسرعة مذهلة.
بدأ هذا الإجماع في الانهيار العام الماضي، عندما أصدر فريق مركبة "جايا" بيانات جديدة تتتبّع حركة ما يقرب من 1.7 مليون نجم عبر السماء. وباستخدام تلك البيانات، تَتبَّع علماء الفلك مسارات العديد من النجوم سريعة الحركة المكتشفة سابقًا، وتوصلوا إلى أنه -على غرار النجم PG 1610- ما يقرب من ثلث هذه النجوم موجود في القرص النجمي لمجرة درب التبانة، ولم يقترب قَط من مركز المجرة. وبالنسبة لمثل هذه النجوم المتجهة إلى خارج مجرة درب التبانة، يجب أن يكون ثمة شيء آخر إلى جانب الثقب الأسود فائق الكتلة يُعطيها الدَّفعة المطلوبة.
في حالة النجم PG 1610، يشك إيرجانج وزملاؤه أن ثقبًا أسود متوسط الكتلة قد يكون مسؤولًا عن ذلك، رغم أن نجمًا فائق الكتلة قد يؤدي الغرض نفسه أيضًا. ومن المعتقد أن الجسمين موجودان في المراكز المزدحمة لعناقيد نجمية يافعة وضخمة. ويتطابق رد فعل أي زوج من النجوم القريبة من بعضها عند التقائها بأيٍّ من هذين الجسمين مع رد فعل النجوم التي تقترب من ثقب أسود فائق الكتلة؛ إذ يتم أسر أحدهما في المدار، أما الآخر فيُقذف بعيدًا بسرعة كبيرة. ويعتمد هروب النجم الآخر من المجرة على الاتجاه الذي قُذف فيه.
وتقول مونيكا فالوري، صائدة النجوم فائقة السرعة من جامعة ميشيجان: "يشبه الأمر في جوهره إلقاء كرة من قطار متحرك". إذا قُذف النجم في اتجاه دوران المجرة، فإنه يكتسب دفعةً قويةً تزيد من سرعته، أما إذا كان يقاتل ضد اتجاه دوران المجرة فإن هذا سيبطئ من سرعته، ولن يتمكن من الهروب من مجرة درب التبانة. بعبارة أخرى، إن بقاء النجم PG 1610 في مجرتنا ليس إلا محض صدفة؛ إذ يمكن لأمثاله من النجوم فائقة السرعة الأخرى التي تقع في قرص مجرة درب التبانة أن تجد نفسها متجهةً بكل سهولة نحو الخارج، متجاوزةً براثن الجاذبية في مجرتنا.
ويُعد النجم PG 1610، الذي يقع على بعد 56 ألف سنة ضوئية فقط، قريبًا إلى حدٍّ ما بالنسبة لكونه نجمًا فائق السرعة، وهذا القرب هو ما أتاح للباحثين دراسة تركيبه الكيميائي عن كثب، وهو إنجاز لم يتحقق حتى الآن سوى مع نجم واحد آخر فائق السرعة. ويقول إيرجانج: "نظرًا إلى أنه قريب، يمكننا تحديد أصول النجم في القرص المجري".
حياة سريعة وموت في ريعان الشباب
من المعتقد أن النجوم فائقة الكتلة، والتي يتراوح وزنها ما بين 50 إلى بضع مئات كتلة شمسية، تتشكل أحيانًا من جَرَّاء تَصادُم النجوم داخل العناقيد النجمية ذات النجوم الأكبر حجمًا والأصغر عمرًا. وقد رصد علماء الفلك نجومًا كبيرة تبلغ كتلتها 300 كتلة شمسية في هذه المناطق الحارة والمزدحمة من درب التبانة، ويعتقد بعض العلماء النظريين أن مثل هذه النجوم يمكن أن ينمو ليصل حجمه إلى 1000 كتلة شمسية.
غير أن هذا الحجم له ثمنٌ باهظ، إذ إن مثل هذه النجوم الضخمة تعيش لبضعة ملايين من السنين فقط، وهذا بمنزلة طرفة عين مقارنةً بالفترة المتوقعة لعمر شمسنا التي تُقدر بتسعة مليارات سنة. وبالتالي، إذا كانت النجوم فائقة الكتلة هي السبب الكامن وراء قذف النجوم فائقة السرعة من قرص مجرة درب التبانة، فينبغي عليها فعل ذلك بسرعة قبل موتها المبكر.
ووفق ملحوظات إيرجانج، يبلغ عمر النجم PG 1610 حوالي 80 مليون عام فقط، وقد تم قذفه قبل حوالي 40 مليون عام. ونظرًا إلى أن النجوم في العناقيد النجمية في الأغلب تكون مولودةً في التوقيت نفسه تقريبًا، فإن لها العمر نفسه تقريبًا، مما يشير إلى أن نجمًا فائق الكتلة طويل العمر قد تسبب في قذف النجم PG 1610، وهو السيناريو الذي يعتبره إيرجانج "غير محتمل".
أما فاسيلي جفارامادز -الباحث لدى جامعة موسكو الحكومية، والذي يقوم بإجراء نمذجة للنجوم فائقة السرعة، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة- فيبدو غير مستعد للتخلي عن فكرة أن النجوم فائقة الكتلة هي السبب في قذف النجوم خارج المجرة بعد. ويقول: "من الصعب تقدير عمر النجم والمدة التي بقي فيها محلقًا في السماء". وتعتمد التقديرات على نماذج مختلفة، وقد يؤدي ارتكاب خطأ صغير في تقدير أيٍّ منهما إلى تأثير كبير على الناتج النهائي.
تعيين مواقع الثقوب السوداء متوسطة الكتلة
بمجرد أن تنفجر النجوم فائقة الكتلة على هيئة مستعر أعظم عنيف (سوبر نوفا)، تشير النظريات إلى أنها تخلِّف وراءها ثقبًا أسود متوسط الكتلة. ويتراوح وزن هذه الوحوش المتوسطة -التي تكون أصغر حجمًا من الوحش الذي يقبع في قلب مجرة درب التبانة- بين 100 كتلة شمسية وبضعة آلاف من الكتل الشمسية، ويكون لديها متسع من الوقت لقذف النجوم من العناقيد النجمية التي وُلدت فيها.
تكمن المشكلة في أنه لم يجرِ رصد أي ثقوب سوداء متوسطة الكتلة على الإطلاق بشكل قاطع؛ فالأدلة على وجودها مقنعة ولكنها ظرفية. وكما تقول أليسيا جوالاندريس، من جامعة سري في إنجلترا، والتي لم تشارك في هذه الدراسة الجديدة: "هذه الفرضية مثيرة للجدل إلى حدٍّ ما بالفعل؛ إذ إنك تحاول تفسير عملية باستخدام شيء لم يتم رصده بشكل مباشر مطلقًا". وعلى الرغم من هذه التحفظات، فإن جوالاندريس -التي أجرت نمذجةً لكيفية تفاعُل النجوم فائقة السرعة مع الأجسام الضخمة- تشتبه أن الثقوب السوداء متوسطة الكتلة على الأرجح هي السبب، وليست النجوم فائقة الكتلة العابرة نادرة الوجود.
وقد ظهر أحد أسباب هذا الاشتباه العام الماضي في نتائج مركبة "جايا" الإضافية، التي أظهرت أن أحد نجوم درب التبانة فائق السرعة قد أُلقي به هنا من سحابة ماجلان الكبرى، وهى مجرة قزمة تبعد 160 ألف سنة ضوئية عن مجرة درب التبانة. وتقول جوالاندريس إنه من المُعتقد أن أغلب المجرات القزمة تفتقر إلى مواد كافية لتكوين ثقوب سوداء فائقة الكتلة، مما يجعل الثقوب السوداء متوسطة الكتلة هي أفضل تفسير لأي نجوم فائقة السرعة قُذفَت من سحابة ماجلان الكبرى.
إذا كانت الثقوب السوداء متوسطة الكتلة منتشرةً عبر العناقيد النجمية الكثيفة اليافعة في درب التبانة، فإن النجوم فائقة السرعة يمكن أن تساعد في العثور عليها. لقد تتبَّع إيرجانج وزملاؤه مصدر النجم PG 1610 إلى ذراع رامي القوس الحلزوني بمجرة درب التبانة، مما يمنح صائدي الثقوب السوداء مكانًا للبحث فيه عن الأشياء التي يصعب تحديدها.
تقول فالوري: "لا يزال هذا غيرَ ممثلٍ دليلًا على وجود الثقوب السوداء متوسطة الكتلة، ولكنه يجعل من الضروري محاولة فهم كيف تكونت؛ إذ سيؤثر ذلك على فهمنا لكيفية تطوُّر هذه النجوم، وكيف تتطور النجوم الأضخم إلى ثقوب سوداء".
نولا تايلور ريد
إرسال تعليق