السلوك الجنسي المثلي "غير قابل للتنبؤ" جينيًّا
الدراسة التي أُجريت على 470 ألف متطوع تؤكد أن تأثير العوامل الجينية ضئيل جدًّا على السلوكيات الجنسية المثلية

أثارت
الكيفية التي يُمكن أن تؤثر بها الجينات على الميول الجنسية المثلية جدلاً
واسعًا استمر مدة ربع قرن على الأقل. فعلى الرغم من أن ما بين 2 إلى 10%
من الأشخاص حول العالم مارسوا الجنس المثلي مرةً واحدةً على الأقل، لم يكن
لدى علماء الوراثة سوى قليل من الدراسات غير المكتملة، التي تُحاول معالجة
ذلك الموضوع المحفوف بالمخاطر، والذي يُلحق بمن يُمارسه وصمًا سلوكيًّا
وأخلاقيًّا، وفق دراسة أعدها باحثون دوليون من جامعات عالمية كبرى.
وتُظهر
بعض الدراسات العلمية السابقة أن جينات مُحددة ربما تكون مسؤولةً عن
السلوك الجنسي المثلي. إلا أن دراسة حديثة اعتمدت على بيانات ضخمة توضح خطأ
ذلك الزعم.
وتعني
نتائج تلك الدراسة الضخمة أن السلوكيات الجنسية المثلية تتأثر بمزيج معقد
من التأثيرات الوراثية والبيئية، على غرار معظم الصفات الوراثية الأخرى.
يقول
مؤلفو الدراسة إنه لا يوجد "جين مثلي واحد" يُمكن أن يؤكد إذا ما كان
الشخص لديه استعداد وراثي لممارسة الجنس المثلي. فعوضًا عن ذلك
الاعتقاد،هناك آلاف من المتغيرات الوراثية المرتبطة بتلك الصفة، ولكلٍّ
منها تأثير ضئيل للغاية.
فحص الباحثون متطوعين أبلغوا عن سلوكهم الجنسي المثلي، وقاموا بإجراء دراسات حول الجينومات الخاصة بهم، ولم يتمكنوا من العثور على أي أنماط جينية موحدة يُمكن أن تكون مسؤولة عن سلوكهم الجنسي المثلي.
ووجد
الباحثون في الدراسة 5 متغيرات جينية داخل الحمض النووي فقط، ترتبط إلى
حدٍّ ما بسلوك المثليين، ولكنها لا يُمكن أن تعطي "تنبؤًا" موثوقًا يُعتمد
عليه.
أنماط سلوكية معقدة
لاحظ
الباحثون أيضًا وجود بعض المتغيرات التى ترتبط بالمسارات البيولوجية التي
تؤثر على السلوك الجنسي المثلي. إلا أن الورقة العلمية تؤكد أن الأنماط
السلوكية "معقدة"، وأن الاعتماد على الأسس البيولوجية لتفسير السلوك الجنسي
المثلي ليس صحيحًا بشكل كامل؛ نظرًا إلى أن رؤيتنا وما نعرفه عن الجينات
"بدائي للغاية".
وتُحذر
الدراسة من استخدام تلك الرؤية القاصرة لفهم السلوكيات الاجتماعية، مشيرةً
إلى أن "هناك تاريخًا طويلًا من إساءة استخدام النتائج الجينية لأغراض
اجتماعية".
وتقول
نتائج الدراسة إنه بفحص السلوكيات المثلية لمجموعة المتطوعين، وجد
الباحثون أن "آثار المتغيرات الوراثية التي يُعتقد أنها ترتبط بالسلوك
الجنسي المثلي لا تتخطى1%. وبالتالي فإن استخدام تلك المعلومات أو
المتغيرات للتنبؤ أو التدخل أو "العلاج" هو أمر "مستحيل كُليًّا".
يُعَرَّف
الجنس المثلي بكونه ممارسة جنسية مع شخص من الجنس نفسه. ويشير الباحثون
إلى أن هناك مجموعة من الأسباب الشخصية التي تجعل شخصًا ما ينخرط في هذا
السلوك.
شملت
تلك الدراسة العديد من الأفراد المثليين والمثليات، كما فحصت أيضًا
الأشخاص ثنائيي الميول الجنسية، أو هؤلاء الذين يُفضلون الجنس المستقيم.
ورغم أن الدراسة شملت قرابة نصف مليون حالة، إلا أن "أندريا جانا" -أحد
مؤلفي الدراسة- يقول إن البحث "لم يستطع استكشاف التعقيد الغني للهوية
الجنسية والتوجهات الشخصية".
يضيف
"جانا"، في تصريحات لـ"للعلم" أن "أحد قيود تلك الدراسة يشمل كونها قائمةً
على تحليل المعلومات والبيانات الحالية ذات النطاق المحدود؛ إذ اعتمد
التحليل على تنظيم البيانات الجينية دون الأخذ في الاعتبار بالتنوع الكامل
للجنس البشري، وهوية المثليين في حياتهم وخبراتهم، وبيئاتهم المتنوعة".
خمس نتائج رئيسية
يقول
"جانا": انتهت الدراسة إلى خمس نتائج رئيسية: أُولاها أن تأثير العلامات
الوراثية المرتبطة بالسلوك الجنسي المثلي صغير جدًّا؛ إذ يسهم كلٌّ منها
بأقل القليل في السلوك البشري، وهذا ليس غريبًا على النتائج البشرية
المُعقدة؛ إذ إن المتغيرات الوراثية الشائعة التي تظهر في الحمض النووي
للمثليين، تؤثر في مقدار صغير جدًّا من حجم النتيجة الكلية، ألا وهي السلوك
المثلي".
ويضيف
أنه "من المهم أن نتذكر أن تلك المتغيرات الوراثية وحدها لا يُمكن أن تحدد
السلوك الجنسي لشخص ما. إذ إنها تعبر فقط عن موروثة في الطبيعة تم تشكيلها
من خلال مئات أو آلاف التفاعلات بين المتغيرات الوراثية، ويُمكن أن تتشكل
أصلًا بواسطة بيئة الشخص أو تجاربه في الحياة، لذا يُمكن أن نقول بثقة إنه
لا يوجد محدد وراثي وحيد للسلوك الجنسي المثلي، وإنه بقدر ما تتأثر الحياة
الجنسية بالوراثة، فإنه من المرجح أن تُشارك مئات المتغيرات الوراثية أو
الآلاف منها معًا، جنبًا إلى جنب مع البيئة والخبرات، لتُشكل مُحددًا
للسلوك الجنسي المثلي".
أما
النتيجة الثانية فتتعلق بتأثير المتغيرات الوراثية من الناحية البيولوجية
على الأشخاص. إذ وجد الباحثون أن إحدى تلك العلامات ترتبط بالجينات المرتبط
بالصلع والقدرة المميزة على استكشاف الروائح. وهذا أمر مثير للاهتمام؛
فعلى الرغم من أهمية الروائح بالنسبة للجاذبية الجنسية، لم يفهم الباحثون
بعدُ كيف يُمكن أن يكون ذلك الأمر مرتبطًا بالسلوك الجنسي. وبالتالي فإن
هذا الاكتشاف يُمكن أن يكون حجر زاوية لبدء أبحاث حول علاقة الرائحة
والقدرة على استكشافها بالسلوكيات الجنسية عامة، والسلوكيات الجنسية
المثلية على وجه الخصوص، وفق "جانا".
تتعلق
النتيجة الثالثة بعدم إمكانية استخدام البيانات الجينية كدليل على
المثلية، أو للتنبؤ بها. إذ تقول الورقة إن السلوك الجنسي سمة معقدة
للغاية. فالتأثيرات الوراثية التي تُسهم في فرصة ممارسة الجنس مع شخص من
النوع نفسه تختلف إلى حدٍّ كبير عن التأثيرات الوراثية التي تُسهم في درجة
السلوك الجنسي المثلي. بمعنى أن الشخص الذي يُمارس الجنس مع شخص واحد من
نفس نوعه لديه متغيرات جينية تختلف كُليًّا عن الشخص المثلي الذي يُمارس
الجنس مع عدد من الأشخاص.
أما
النتيجة الرابعة فتتعلق بالعلامات الوراثية التي تؤثر على السلوك الجنسي
المثلي عند الإناث والذكور. إذ إن 60% من المتغيرات الوراثية عند الذكور هي
المتغيرات نفسها عند الإناث. أما الـ40% الباقية فكانت فريدةً لكل جنس. ما
يعني أن تلك الاختلافات الجنسية قد تعكس اختلافًا في السياقات المجتمعية
أو الثقافية.
وتشمل
النتيجة الخامسة توضيحًا خاصًّا بتداخل الجينات، التي تؤدي دورًا في
السلوك الجنسي المثلي بصورة جزئية مع سمات أخرى. إذ وجد الباحثون أن هناك
أنماطًا وراثيةً تؤدي دورًا في المثلية الجنسية وتؤدي دورًا في بعض
السلوكيات المرتبطة بالصحة، مثل التدخين وتعاطي المخدرات. كما وجدوا
تداخلًا أيضًا بينها وبين انفصام الشخصية والاضطراب ثنائي القطب والنوبات الاكتئابية الكبرى.
إلا
أن "أندريا" يعود ويؤكد أن التداخلات الوراثية الواضحة التي لاحظها الفريق
البحثي بين السلوكيات الجنسية والسمات الشخصية "يجب تناولها بكثير من
الحذر؛ إذ من المحتمل أن يكون للبيئة الاجتماعية أثرٌ على إحداث تلك
التداخلات".
قابلية التعميم
لكن..
إلى أي مدى يُمكن الثقة بنتائج تلك الدراسة؟ كان هذا أحد الأسئلة التي
فرضت نفسها على مؤتمر صحفي مصغر، عقدته دورية "ساينس" عن طريق "الفيديو
كونفرانس"، وحضرته "للعلم" عن بُعد، ضمن 38 صحفيًّا من كُبريات الصحف
ووكالات الأنباء العالمية.
يجيب
الباحثون عن هذا السؤال بالقول: "إن تلك النتائج تُعد موثوقةً إلى حدٍّ
كبير، وتتفق مع رؤية العديد من الدراسات العلمية الأخرى، غير أن هناك عددًا
من القيود في تلك الدراسة، أهمها على الإطلاق أن المعلومات التي اعتمدت
عليها تم الإبلاغ عنها ذاتيًّا، بمعنى أن الباحثين في الدراسة لم يُجروا أي
فحوصات تتعلق بصحة تلك المعلومات".
كما
ناقشت الدراسة في المقام الأول حالة الأشخاص الذين تم تعيينهم كـ"ذكر
وأنثى" عند الولادة. بمعنى أن النتائج والتحليلات تتعلق بـ"الجنس المحدد
بيولوجيًّا"، وليس بـ"الجنس أو الهوية الجنسية المكتسبة بأى شكل من
الأشكال؛ إذ لا تشمل الدراسة الأشخاص المتحولين جنسيًّا على سبيل المثال،
أو المُصابين باضطرابات هرمونية مرضية.
كما
أن نتائج تلك الدراسة "إحصائية"، ولا يُمكن استخلاص أي استنتاجات لأي فرد
بعينه، وبالتالي، يستحيل التنبؤ أو تحديد السلوك الجنسي لشخصٍ ما على وجه
التحديد. إضافةً إلى أن تركيبة العينات جاءت من الأصول الأوروبية، مع قليل
من أصول أخرى، وبالتالي لا يُمكن أن تُطبق النتيجة على الأجناس المتعددة أو
سكان العالم ككل.