
في الثامن من أكتوبر سنة 2015، طيَّرت وكالات الأنباء من أقصى الجنوب الأفريقي خبرًا أثار امتعاض كثير من الناس في عديد من بلدان العالم، وكان عن صياد أوروبي قتل أحد أضخم الأفيال الأفريقية بمحمية جوناريتشو في زيمبابوي للحصول على أنيابه، وأظهرت صورة تذكارية التُقطت للصياد الأوروبي ودليله الصياد الأفريقي المحترف وهما يحتفلان بإعدام الفيل العملاق، متخذين من ساق القتيل الأمامية التي التوت تحت جثته العظيمة المتهاوية، كنبةً يقتعدها الدليل وهو يصافح الصياد الواقف إلى جواره، فرحَين بالانتصار المُظفَّر.
وكان أكثر ما يلفت النظر في الصورة نابا الفيل القتيل الرائعان يلامسان الأرض، وطول الواحد منهما يكاد يفوق طول أيٍّ من الرجلين!
وردًّا على الاحتجاجات التي تصاعدت من محبي الحيوانات وجماعات الحفاظ على البيئة الفطرية في العالم، قيل إنه لم تكن هناك أية مخالفة في الأمر؛ فالصياد حصل على تصريح "قانوني" بالصيد مقابل ستين ألف دولار. وقال مسؤول مكتب الصيد المنظم لرحلة الصياد التي استغرقت 21 يومًا للظفر بالفيل، إن وكيله لم يخطئ، ثم إن هذا الفيل يبلغ عمره 60 عامًا، وكان قد نشر بذوره عدة مرات، ثم إن شركته دفعت 70% من رسوم الصيد للمجتمع المحلي، وهذا أمر جيد للسكان المحليين، فليس مألوفًا أن يُنفِق صياد مئة ألف دولار في كل رحلة!
أما منتديات الصيد في جميع أنحاء العالم، فقد احتفلت، نعم احتفلت، بتسجيل النجاح في قنص فيل قالت إنه "ربما كان الأكبر في أفريقيا منذ 30 عامًا"!
بالرماح والرصاص وسم السيانيد!
مقتل هذا الفيل العملاق فتح الباب للكشف عن عمليات القتل المستمرة للأفيال الأفريقية، خاصةً وقد اكتُشِفت 26 جثة لأفيال قُتلت بسم السيانيد في مُتنزَّه هوانج الوطني بعد أيام من مقتل الفيل العملاق، وهي طريقة مروِّعة للصيد، أدت أيضًا إلى مذبحة جماعية لمئة فيل في أكتوبر عام 2013. ولم تكن تلك إلا لمحة مريرة من تاريخ طويل لقتل الأفيال الأفريقية.
لقد وثَّقت الدراسات أنه بعد قرون من قتل الأفيال للحصول على أنيابها عبر "رياضة" الصيد التي تفشت مع غزو الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، ثم بالصيد غير المشروع لعملاء تجارة العاج العالمية التي حُظرت دوليًّا منذ العام 1989، والتي لا تزال تُدِرُّ على مجرميها ما يقارب مليار دولار سنويًّا، أنه بين عامي 2007 و2014 قُتل ما يصل إلى 144 ألف فيل للحصول على عاج أنيابها.
هذا التاريخ الدموي لمذابح الأفيال، جعل الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة IUCN يُدرج الفيلة الأفريقية ضمن الأنواع المهددة بالانقراض، وتواردت الأرقام تصرخ: عام 1979 كان عدد الأفيال في أفريقيا 1.3 مليون فيل، وبحلول عام 1989 هبط العدد إلى 609.000، وبعد عام 1987 بلغت خسارة الغابات الأفريقية من الأفيال ما نسبته 43%، معظمها بسب الحروب الأهلية وتجارة العاج غير المشروعة. أما المخيف حقًّا فهو الرقم الذي قدرته الـIUCN للعدد الإجمالي لما تبقى من أفيال في أفريقيا في العام 2012 وهو 440.000، والتي ظل، ولا يزال، يُنحر منها بالصيد الجائر 55 فردًا يوميًّا للحصول على أنيابها!
نعمة الأنياب ونقمة العاج
لا شك أن أنياب الفيلة هي أكثر أعاجيبها لفتًا للأنظار، أنظار المفتونين، وأنظار المجرمين. وهذه الأعجوبه العاجية لدى هذا المخلوق، ليست مجرد ميزة جمالية، فهي أسنان متخصصة تطورت بمكان القاطعين الجانبيين في الفك العلوي، وتظل تنمو طوال عمر الفيل، وإذا انكسر ناب، فإنه يواصل النمو، إلا لو انكشف جذره، فعندئذٍ يموت الفيل موتًا بطيئًا شديد الإيلام.

يستخدم الفيل هذه الأنياب بشكل أساسي ليحفر بها الأرض بحثًا عن الماء وجذور النباتات بعد المطر، ويقشر بها لحاء الأشجار التي يأكل منها، ويكسر ما يتغذى به من أشجار السنط وخروب الشوك، ويستخدمها كرف يخزن عليه ما يجمعه من نبات يأكله عندما يجوع، كما يعتبرها مُتكأً يُريح عليه خرطومه المُجهَد. أما الاستخدامات الثانوية فتحدث في مصارعات تَنافُس الذكور على الإناث في مواسم التزاوج، وإن ظل ذلك قتالًا طقسيًّا لا ينتهي بالقتل. وهي سلاح يردع به الحيوانات المفترسة التي تهاجم صغاره وتتجنب مواجهته. وكما يستخدم الفيل نابيه في الصراع والقتال ومشاق الحياة، يستخدمهما للاحتفاء بصديق أو التودد إلى أنثى، فيقرع بنابيه نابَي الصديق أو المحبوبة قرعًا خفيفًا لطيفًا، كأنه تربيت متبادل بالأيادي أو مصافحة. ومن الطريف أن نابي الفيل ليسا متماثلين، فكما أن لدى الإنسان يد سائدة -يمنى أو يسرى، كذلك الفيل.
هذه الأعجوبة لم يكتفِ الإنسان بأن تلهمه السحر والجمال والإدهاش في مكانها الحي، بل طمع فيها بعض البشر منفصلةً عن الكائن الذي يحملها، ليصنعوا منها تحفًا ومباسم للسجائر والأراجيل وأصابع بيانو (قبل أن يخجل الموسيقيون من العزف عليها ويُستبدل بها شبيهٌ صناعي)، ثم توسع استخدامها لتصير منحوتات ثمينة وأدوات تَعبُّد، وزينة، وسكاكين لفتح دواوين الشعر، والكتب العظيمة، ومُغلفات الرسائل المهمة! مفردات بلا عد لأغراض يُفترض أنها جمالية ورقيقة وراقية، ولكنها مُنتزعة من عظم ولحم أضخم الكائنات، وأعظمها رُقيًّا ورِقَّة، على وجه الأرض.
جبال عاطفية تذوب حنانًا
منذ أربعة عشر قرنًا قال إيسيدور الإشبيلي، المؤرخ الإسباني وأحد أهل العلم في زمانه: إن كلمة فيل elephant تحدرت من الكلمة اليونانية التي تُنطق elephas أي الجبل، وهو الانطباع الذي يتبادر إلى خاطر كل من يرى الأفيال تمضي بخطوها الراسخ الرزين في البراري الأفريقية، فكأنها جبال تتهادى على الأرض.
يزن فيل السافانا الأفريقي الناضج 6000 كيلوجرام، وارتفاع كتفيه عن الأرض 3.2 أمتار، فهو أضخم حيوان ثديي يقطن سطح كوكبنا، ومع ذلك لا تُشكِّل ضخامته الراسخة إلا سطحًا، ما يجعلنا نشعر بالانشداه حياله، فهو مع هذه الضخامة يسحرنا ويبث فينا جوًّا من السكينة والحكمة، خاصةً إذا كان لدينا ولو الحد الأدنى من معرفة ما يكتنف هذه الضخامة من قدرات عضوية خارقة، وذكاء عقلي وعاطفي عجيبين.

هم يساعدون جرحاهم بضغط خراطيمهم على الجراح النازفة ليتوقف الدم، ويواسون مرضاهم، ويؤبِّنون موتاهم، ويتبنون الرضيع إذا فقد أمه. ويفتقد الفرد منهم صديقه إذا غاب عنه أكثر من عشرين دقيقة، فيتلاقيان بفرح يعبران عنه بأن يلف كلٌّ منهما خرطومه على خرطوم الآخر. وعندما تستقبل الأسرة أصدقاءً من أسرة أخرى بعد غيبة يتعانقون بلف الخراطيم على الخراطيم والنقر اللطيف بالأنياب على الأنياب والرفرفة بالآذان، كما لو كانت رايات يلوِّحون بها عند الفرح. أما أبلغ ملامح الرومانسية في الحب فتتجلى في الذكور الذين يتوددون للإناث بتقديم أغصان طرية مما يحببن أكله، ويرشون على ظهورهن الماء بخراطيمهم ليخففوا وطأة الحر عنهن. وإذا انتهى العناق لا يدير الذكر ظهره لرفيقته ويمضي، بل يظل واقفًا يؤنسها ويحرسها. أما عند فراق الموت، فالمشهد بالغ التأثير، ويحكيه عالِم الحيوان دوجلاس هاملتن كما رآه عند احتضار فيلة ربة أسرة؛ إذ أقبل فيل من مجموعة مجاورة وظل يرفع جسدها قبل وفاتها، في حين كانت أفيال أخرى تحاول مساعدتها على الوقوف". شيء عجيب يكاد يجسد مفهوم "الذكاء العاطفي" Emotional Intelligence، الذي أعاد تذكيرنا به عالِم النفس "دانيل جولمان" في كتابه الثاقب بالاسم نفسه، والذي حقق انتشارًا مذهلًا في العالم، يُثبت أن البشر عطشى لاستعادة عنصر نفيس نسوه في تكالبهم النفعي في أزمنة "الاستهلاك" والذكاء العقلي بلا روح. ومع هذا الذكاء العاطفي لم تعدم الأفيال الذكاء العقلي الرشيد ومقوماته.
ذاكرة قوية وحاسة سادسة
في دراسة لثلاث أُسر من الفيلة في تنزانيا في أثناء موجة جفاف طويلة مهلكة، تتبَّع العلماء سعي أسرتين تقودهما "الأمهات الكبيرات" بحثًا عن الماء، وقد نجحتا في الوصول إلى مورد نادر للماء، تبيَّن أن الأمهات القائدات عرفنه منذ ثلاثين سنة عندما ضربت براريهن موجة جفاف مشابهة. واستنتجت الدراسة امتلاك الأفيال ذاكرةً طويلة المدى، من طرائفها أن فيلة أنثى ما إن رأت عالِم الحيوان إيان دوجلاس هاملتون بعد غيابه عنها لأربع سنوات، حتى أقبلت عليه ترفرف بأذنيها فرِحةً بعودته!
ذاكرة طويلة قوية هي أداة الذكاء العقلي، وتدعمها قدرات تكاد تكون خارقةً تجعل الأفيال يتواصلون عبر مسافات شاسعة عبر موجات "تحت صوتية" لا يسمعها البشر، وتستقبلها الأفيال بمستقبِلات عصبية فائقة الحساسية في جلودها وأقدامها تنتقل عبر العظام إلى الآذان. حس فائق جعل البعض يتساءلون عما إذا كانت لدى الأفيال "حاسة سادسة"؛ إذ تَبيَّن أن هذه الجبال الحية تستطيع معرفة حدوث عاصفة رعدية على بعد 280 كيلومترًا، فتتجه نحوها التماسًا للماء الذي تعرف أن أمطار العاصفة ستجود به.
كيانات حية عظمى كما رآها المخرج والممثل العالمي كلينت إيستوود، الحائز جائزة الأوسكار أربع مرات، في فيلمه "صياد أبيض، قلب أسود" الذي مثله وأنتجه عام 1990، وقد لخص تعظيمه لهذه الكائنات عندما اعتبر أن قتلها "إثمٌ عظيم"، ينبغي أن يُشعر مقترفه بالندم ونبذ الغرور البشري. ومع ذلك، لم يتوقف قتل هذه الكائنات، التي لم يَرَها عمى الحس والعقل البشريين إلا مجرد أنياب، ولم يرَ الأنياب إلا مجرد عاج يُغري بالنحت ويُسوِّغ القتل! مئات الأعوام من اغتيال الأفيال برماح القتلة من البشر ورصاصهم وسمومهم، وقد بلغ القتل مداه حتى أوشكت الأفيال الأفريقية على الانقراض، إلا أنها فجأة أذهلت العِلم والعالم، برد فعل عجيب في الحياة.
لا أنياب بعد اليوم
بعد انقشاع غبار الحرب الأهلية المشؤومة في موزمبيق التي استمرت 15 عامًا، لوحظ أن ثلث الإناث من الجيل الأول المولودات بعد هذه الحرب لم تظهر لهن أنياب؟! وهو أمر مألوف لدى إناث الأفيال الآسيوية في الأحوال العادية، وهذا يمكن تقبُّله في بيئة الأدغال الآسيوية الدافئة المطيرة، التي تجود بكثير من النباتات اللينة التي لا تتطلَّب تقشيرًا أو تكسيرًا. أما في براري أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تشح الأمطار وتغدو الأشجار صلبة والنباتات يابسة، فوجود الأنياب لدى الأفيال ضرورة لكثير من مهمات الحياة، وإن كانت هناك نسبة ضئيلة جدًّا تُقدَّر بنحو 2 إلى 4% من الإناث لا تظهر لهن أنياب.
.jpg)
طرحت ظاهرة اختفاء الأنياب علامات استفهام وتعجُّب، وتبيَّن أنها لم تكن وقفًا على موزمبيق التي اكتوت بنيران الحرب الأهلية الطويلة، ففي بلدان أفريقية مختلفة ذات تاريخ في استباحة حياة الأفيال بالصيد الجائر للحصول على أنيابها، ثبت أن مواليد الناجين من هذه الاستباحة من الإناث كان معظمهن بلا أنياب، أما الذكور فكانت بأنياب صغيرة، وقلة لم تظهر لها أية أنياب. وكانت حديقة الأفيال الجنوب أفريقية "أدَّو" نموذجًا فاجعًا؛ إذ بلغت نسبة إناثها المفتقرات إلى الأنياب 98% عام 2000! وأمام فداحة ذلك وغرابته، تساءل "شان كامبل ستاتون"، أستاذ البيولوجيا التطورية بجامعة كاليفورنيا وعضو فريق دراسة تلك الظاهرة: "كيف مُرِّرت هذه السمة الوراثية على هذا النحو؟ هذا لا يزال غامضًا!".
ظاهرة تطورية أم لا؟
لم يختلف الباحثون في أن الصيد الجائر شكَّل ضغطًا وراثيًّا على الأفيال، لكن هل كان توالُد أفيال بلا أنياب ردًّا تطوريًّا Evolutional قائمًا على آلية الاصطفاء الطبيعي للرد على هذا الجور؟ إنها فكرة تبدو رومانسية كثيرًا، وكأنها دراما تقول فيها الأفيال لقاتليها من البشر: "أنتم تقتلوننا للحصول على أنيابنا؟ طيب، خذوا، لن تكون لنا أنياب بعد الآن، وستموت تجارتكم الظالمة لكثرة ما مات منا برماحكم ورصاصكم وسمومكم!".
لقد تبنَّى فكرة أن الظاهرة تطورية، داروينية، كثيرٌ من الباحثين ومحرري الثقافة العلمية، حتى إن موقع Earth.com في 15 يناير هذا العام، أورد لمحرره مقالًا يتبنى ذلك بحماس واضح يقول: "في مثال رائع للتطور عن طريق الانتقاء الطبيعي، بدأت الأفيال الأفريقية في فقد الأنياب التي تجعلها ذات قيمة كبيرة للصيادين من أجل عاجها"، لكنه لم يلبث حتى عرض لآراء علماء متحفظين على ذلك، وإن بخفوت وحذر، وهو مما يستدعي إلى الذاكرة تحفظات سابقة أطلقها علماء معتبرون بصوتٍ عالٍ ومقتحم، ففي 23 نوفمبر 2016 أوردت مجلة Nautilus العلمية في باب "حقائق رومانسية جدًّا في علم الأحياء" مقالًا تحت عنوان يتساءل: "هل الصيد الجائر يسبب للفيلة تطوُّر أجيال دون أنياب؟".
وردًّا على السؤال السابق في متن المقال، صرَّح "ديفيد كولتمان" -عالِم الوراثة التطورية بجامعة ألبرتا- قائلًا: إنه قد جرى توسيع للخيال، ومن الصعب تقديم أدلة دامغة عليه، واستخدام مصطلح "التطور" هنا يمكن أن يكون خطأً ويحجب عنَّا فهم العمليات المُحدِثة للظاهرة. ويضيف "ييكولاس جويادس"، الباحث بجامعة واشنطن المختص في دراسة الوراثة السكانية للأفيال: "هناك نوعان من الأدلة لإثبات التطور يلجأ إليهما علم الأحياء الحديث ويصعب الفصل بينهما، أولهما تتبُّع تغيرات المظهر (النمط الظاهري)، وثانيهما دراسة التغيرات الجينية المواكبة (النمط الوراثي)، والشق الثاني لم تصل فيه الدراسة إلى يقين، ومن ثم لا يجب القطع بأن هناك تغيرًا تطوريًّا قائمًا على الاصطفاء الطبيعي".
ترجيح غير حاسم
خروجًا من هذا الجدل قال "جويس بول"، المؤسس المشارك في مجموعة "Elephant Voices" غير الربحية والمُكرَّسة لدراسة أفيال أفريقيا لما يقارب 40 عامًا: "الصيد الجائر يقضي على الذكور ذوي الأنياب الضخمة والإناث ذوات الأنياب الضئيلة، فلا يبقى إلا ذكور وإناث بلا أنياب، وهؤلاء يتزاوجون فينجبون صغارًا بلا أنياب لا يقتلهم الصيادون. هكذا يبدو الأمر كما لو كان تطورًا يتكيَّف مع الصيد الجائر". لكن "أتلي مايسترود" -عالِمة البيئة بجامعة أوسلو- تُبدي القلق من هذا الاستنتاج بهذه السرعة، قائلة: "لا أحد يشك في أنه إذا كان لديك ضغوط انتقائية قوية للغاية فمع مرور الزمن سنرى تطورًا. فهي قضية زمنية، لكنها لا تثبت إلا بإدخال معلومات التغيُّر الظاهري وتثبيتها في الحمض النووي".
إذًا، المرجح علميًّا أن توالُد أفيال بلا أنياب ليس ظاهرةً تطوريةً بعد، بل هو شيء آخر يشبِّهه "ييكولاس جويادس" بأنه "مثل التغيرات في حجم الأسماك بسبب تفضيل الصيادين لحصاد الأسماك كبيرة الحجم، فلا تتبقى إلا صغيرة الحجم منها، فهو تغيُّر سريع في سمة واحدة، مما يعني أنه ليس تطورًا". وفي هذا السياق تقول "ألفيثيريا بالكوبولو"، عالِمة الوراثة بجامعة هارفارد: "إن أفضل طريقة لتحديد ما إذا كان التغيُّر في تواتر السمات في مجموعة ما، تطورًا، أن ننظر إلى جينوم هذه المجموعة، وهذا ليس بالأمر السهل، فهي عملية طويلة جدًّا. أما تجاهُل بقية الجينوم والنظر إلى سمة جينات الأنياب فقط فهو لا يقطع بحدوث تطور، وإن كان أسهل. وإذا استمر الصيد الجائر لعدة أجيال، فليس بالضرورة أن تختفي الأنياب، فالأنياب ليست مجرد زينة، إنها عضو وظيفي يؤدي مهمات حياتية عديدة وأساسية". واتصالًا بتلك الحقيقة يوضح "فيكتور موبوشي"، عالِم البيئة بجامعة "تشينهوي" في زيمبابوي: "إن فقدان الأنياب يبرز أهميتها لصحة الفيل وبقائه، فالذكور الخالون من الأنياب يكونون أكثر عدوانيةً ويتعرضون للإجهاد النفسي! ويكونون أكثر عرضةً لأمراض سوء التغذية، وأقل كفاءة في التكاثر". بعبارة أخرى: فقدان الأنياب ليس ميزةً تطوريةً مصطفاة لكفاءة العيش واستدامته، بل ربما تكون مقدمةً لانقراض الأفيال الأفريقية؟!
الجريمة خاصة والعقاب شامل
بنظرة بانورامية لظاهرة وجود أفيال بلا أنياب، نكتشف أنها ليست مجرد عقاب لقتلة الأفيال ومشغليهم من مافيا تجارة العاج العالمية. بل تتجاوز ذلك إلى اختلال التوازن البيئي الذي تضمنه الأفيال في مواطنها الفطرية، فهي عندما تفقد أنيابها ستنتقل إلى موائل جديدة تجد فيها ما يناسب اختفاء أنيابها من غذاء، ومن ثم تصطدم بمنافسين جدد وتستهلك موارد لا تحتمل ضخامة متطلباتها. أما بيئاتها الأصلية التي ستغادرها فسيختل فيها التوازن الذي كانت تدعم استدامته. فهناك طيور نشأت لتعيش متكافلةً مع الأفيال، تتغذى على الحشرات التي تضايقها، وتنذرها بالأخطار القادمة من خلفها، وهناك حُفر الماء التي كانت الأفيال تصنعها بأنيابها فتستقي منها طيور وحيوانات صغيرة عديدة. ستزداد الأفاعي السامة التي كانت تسحقها أقدام الأفيال الثقيلة؛ لكونها أعدى أعدائها، وتنقرض ثعابين أخرى كانت تتخذ من الثقوب التي تتركها أنياب الأفيال في جذوع الأشجار جحورًا لسكناها. ستختفي أشجار عديدة، أشهرها شجرة خروب الشوك، التي كانت تفضلها الأفيال غذاءً تأكل منه شجرة وتزرع عوضًا عنها عشرات الأشجار، فهي تُليِّن بذور ثمار خروب الشوك في أمعائها وتُخرجها جاهزةً للإنبات ومحاطة بكتل هائلة من الروث كسماد يضمن النمو القوي والمتسارع لأشجار جديدة منها. وستتغول الكواسر واللواحم التي كان وجود الأفيال الهائل المهيب يُلزمها بنطاقات لا تتجاوزها.

باختصار، ستكون غلبة الأفيال عديمة الأنياب في السافانا والبراري الأفريقية عقابًا ينزل بقاتليها نعم، لكنه يتجاوز مرتكبي هذه الجريمة الخاصة، ليصير عقابًا شاملًا لمن شاركوا في التغطية على هذه الجريمة ولو بالصمت، أما الاختلال البيئي لاختفاء نوع رئيسي من كائنات هائلة كالأفيال، فلن يتوقف عند حدود، فالبيئة الفطرية لا تعرف الحدود، وإفساد سلامتها واستدامتها لن تخص عقوبته بل ستعم، عقوبة شاملة لسكان هذا الكوكب وعلى رأسهم البشر. ومن ثم، وكما علَّق البعض من قراء المجلات والمواقع العلمية على مَن ذهبوا إلى اعتبار ظاهرة الأفيال بلا أنياب تطورًا قائمًا على الاصطفاء الطبيعي، كتبوا: "هذا ليس تطورًا ولا اصطفاءً طبيعيًّا، هذا انتخاب صناعي يرتكبه البشر، وليس تطورًا، فالتطور لا تصنعه الحماقة". ولعل أفضل تجسيد لما تعنيه "الحماقة" هنا، هو ما كتبه الشاعر الإنجليزي "هيثكوت وليامز" مُستخدمًا أمثولة العميان والفيل في صورة اختتم بها مرثيته الشعرية عن إبادة الفيل، قائلًا:
"في قصة العميان،
كل أعمى أعطى الفيل وصفًا مختلفًا،
وفق أي عضو تحسسه.
والآن لن يبقى لهم
إلا أن يتحسس أحدُهم الآخر"!!
مرتكزات:
How Teeth Became Tusks, and Tusks Became Liabilities
https://www.google.com/search?client=firefox-b-d&q=How+Teeth+Became+Tusks%2C+and+Tusks+Became+Liabilities
Under poaching pressure, elephants are evolving to lose their tusks
https://www.nationalgeographic.com/animals/2018/11/wildlife-watch-news-tuskless-elephants-behavior-change/
https://www.nationalgeographic.com/animals/2018/11/wildlife-watch-news-tuskless-elephants-behavior-change/
Still poached for ivory
https://wwf.panda.org/knowledge_hub/endangered_species/elephants/african_elephants/afelephants_threats/
https://wwf.panda.org/knowledge_hub/endangered_species/elephants/african_elephants/afelephants_threats/
Is Poaching Causing Elephants to Evolve Without Tusks?
http://nautil.us/blog/is-poaching-causing-elephants-to-evolve-without-tusks
http://nautil.us/blog/is-poaching-causing-elephants-to-evolve-without-tusks
الفيل ــ التاريخ الطبيعي والثقافي ــ دان ويالي ــ ترجمة جولان حاجي ــ منشورات "كلمة" ـ أبو ظبي 2013