تستهلك
الأنشطة الزراعية حوالي 60٪ من الطلب السنوي على المياه في جميع أنحاء
دولة الإمارات، في وقت تعتمد فيه اعتمادًا أساسيًّا على موارد المياه
الجوفية القابلة للنضوب والتلوث.

تحظى
التمور بأهمية اقتصادية وثقافية كبيرة في دولة الإمارات العربية المتحدة؛
إذ تمتلك أكثر من 40 مليون نخلة تمر، وتُعد رابع أكبر منتج للتمر في
العالم، بحجم إنتاج يزيد على 500 ألف طن سنويًّا، بما يمثل أكثر من 5٪ من
الإنتاج العالمي من التمور. ولكن
نظرًا لعدم توافر موارد المياه السطحية في
الإمارات، فإنها تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على المياه الجوفية في الري
والزراعة، ويستهلك النخيل ثلث مخزون الإمارات من هذا المورد، وسط تراجُع
ملحوظ في منسوباته، بسبب عمليات الضخ للزراعة، التي تتجاوز إلى حدٍّ كبير
معدلات التغذية الطبيعية من الأمطار.
شهد
منسوب المياه في الآبار انخفاضًا تجاوز المئة متر في عدد من المواقع. ومن
ناحية أخرى كانت هناك زيادات كبيرة على مدى العقود الأربعة الماضية في
معدلات ملوحة المياه الجوفية في المناطق الرئيسية لزراعة التمر، لذا يحتاج
المزارعون الآن إلى استخدام الحد الأدنى من الكمية المطلوبة للري من أجل
تحقيق الأهداف المرجوة ذاتها.
ووفق دراسة حديثة نُشرت في مجلة "إريجيشن ساينس"،
تستهلك القطاعات الزراعية والحرجية ما يقرب من 60٪ من الطلب السنوي على
المياه البالغ 4.2 كيلومترات مكعبة في جميع أنحاء دولة الإمارات. أُجريت
هذه الدراسة كجزء من متطلبات أطروحة الدكتوراة للباحث الإماراتي أحمد
المعيني، وشارك فيها باحثون من المركز القومي المصري للبحوث، وباحثون من
جامعات ومراكز بحث نيوزيلندية.
يقول
أسامة سلام، الأستاذ المساعد بالمركز القومي للبحوث بمصر، ومدير مشروعات
المياه في هيئة البيئة في أبو ظبي، والباحث المشارك في الدراسة: إن تقارير
حالة البيئة في الإمارات تشير إلى وجود مشكلات مرتبطة بانخفاض منسوب المياه
الجوفية وزيادة ملوحة مخزونها في المناطق الرئيسية لزراعة التمر في العين وليوا، لذلك هناك مخاوف بشأن البصمة المائية لإنتاج التمور في الإمارات.
يشدد
"سلام" في تصريح لـ"للعلم" على أنه من الضروري فهم حجم آثار استخدام
المياه المستخدمة في إنتاج التمور، وكميتها، وجودتها؛ للمساعدة في إجراء
التدابير اللازمة لحماية هذا المورد المهم.

مؤخرًا،
أقرت حكومة أبو ظبي القانون رقم 5 لتقييد استخدام المياه الجوفية، وبموجبه
سيحتاج جميع المزارعين إلى تعديل ممارسات الري الخاصة بهم لتقليل كمية
المياه المستخدمة. يتزامن ذلك مع اعتراف منظمة الأغذية والزراعة العالمية
"فاو" بنظام واحات نخيل التمر بالعين وليوا في الإمارات باعتباره "نظامًا
زراعيًّا ذا أهمية عالمية، ويُعد تراثًا إنسانيًّا للجيل الحالي وأجيال
المستقبل"، معتبرةً أن هذا النظام يوفر إسهامًا مهمًّا في تعزيز الأمن
الغذائي والتنوُّع البيولوجي والثقافي والمعارف المحلية؛ من أجل التنمية
المستدامة والعادلة.
البصمة المائية
تُعرف البصمة المائية
لسلعة أو محصول زراعي بأنها حجم المياه العذبة المستخدمة في إنتاج هذه
السلعة أو المحصول، ويجري قياسها على مدى كامل عمليات ومراحل التجهيز
والإعداد والإنتاج، وتشمل حجم المياه المستهلَكة، وحجم التلوث الناتج عن
عمليات الإنتاج ونوعه، وموقع إجراء هذه القياسات السابقة وزمنه.
صُك المصطلح في عام 2002 بواسطة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة- اليونسكو،
للإشارة إلى كمية المياه العذبة التي يحتاج إليها الأفراد أو المجموعات أو
الشركات من أجل صنع السلع أو تقديم الخدمات التي يستخدمها المجتمع. ويأتي
هذا المصطلح على غرار مفهوم البصمة البيئية في التسعينيات، الذي خلق الوعي
العالمي حول الأثر البيئي للتصنيع.
تنقسم
البصمة المائية إلى ثلاثة أنواع رئيسية، هي: البصمة المائية الزرقاء، التي
يُقصد بها حجم مياه الأنهار والمياه الجوفية المستهلكة فعليًّا في كامل
خطوط ومراحل وعمليات إنتاج أي منتج أو سلعة، والبصمة المائية الخضراء التي
تشير إلى استهلاك مياه الأمطار، والتي تُستخدم مباشرةً لإنتاج محاصيل أو
تنمية الثروة الحيوانية من خلال المراعي الطبيعية، أو أي استعمالات
أخرى. أما النوع الثالث فهو البصمة المائية الرمادية، التي تشير إلى أي
تلوث يصيب المياه العذبة، وتُعرف بأنها حجم المياه العذبة المطلوبة
لاستيعاب حمولة الملوِّثات الناتجة عن عملية معينة، كما تعطي خلفيةً عن
طبيعة التركيزات الأساسية والمعايير الموجودة لنوعية المياه في المنطقة
المبحوثة.
ووفق
نتائج الدراسة فإن المياه الملوثة (الرمادية) التي تحتوي على النيتروجين
والأملاح الناتجة من جذور أشجار النخيل تضر بنوعية احتياطيات المياه
الجوفية المتبقية في دولة الإمارات.
"لحساب
البصمة المائية لنخيل التمر في دولة الإمارات، ولمدة ثلاث سنوات، تم إجراء
تجارب استخدام المياه الجوفية مختلفة الملوحة على ثلاثة أنواع من التمور
في المركز الدولي للزراعة الملحية بدبي. هذه الأصناف الثلاثة هي: "لولو"
الذي يتحمل ملوحة مياه الري، و"خلاص" الذي يتحمل ملوحة المياه بشكل معتدل،
و"الشهالة" التي لا تتحمل ملوحة مياه الري"، كما يوضح سلام في تصريح
لـ"للعلم". ووفقًا
لـ"سلام"، فإن نتائج الدراسة مهمة؛ لأنها قدرت البصمة المائية الرمادية،
وقدمت مؤشرًا على زيادة الأسمدة المستخدمة في عمليات التسميد، وزيادة
معدلات ملوحة التربة، ما يؤثر على المدى الطويل على صلاحية التربة ويزيد من
تدهورها، كما أنه يزيد من مستويات تلوث المياه الجوفية.

تشير دراسة سابقة نُشرت في عام 2017 في مجلة "ووتر ريسورس مانجمنت"
إلى أهمية دراسة تجارة المياه الافتراضية؛ لوجود بُعد عالمي لإدارة
المياه، إذ يتم تداول السلع كثيفة الاستهلاك للمياه على نطاق واسع دوليًّا.
وتشدد هذه الدراسة على أهمية تقدير البصمة المائية لتحديد معدلات تجديد
المياه العذبة ودراسة تطور أنماط الاستهلاك والإنتاج والتجارة فيما يتعلق
بهذا المورد المحدود، بالإضافة إلى تحديد نسبة تلوث المياه.
صيغة جديدة
تمكَّن
الباحثون في الدراسة الخاصة بنخيل التمر بالإمارات من تحديد حجم البصمة
المائية الخضراء والزرقاء لإنتاج التمور في بيئة الإمارات شديدة الجفاف،
وتقييم القيمة الاقتصادية للمياه الجوفية المستخدمة في الري، كما جرى تحديد
البصمة الرمادية لملوِّثات المياه الجوفية من النيتروجين والأملاح،
واقتراح صيغة جديدة للبصمة المائية الرمادية عند الري باستخدام المياه
الجوفية المالحة.
أوصت
الدراسة بأن تكون كمية المياه المستخدمة في ري النخيل 1.5 بخر-نتح -بمعنى
زيادة كمية المياه المستخدمة في الري بمقدار مرة ونصف المرة لسد احتياجات
النبات- وذلك بتحديد 25% كعامل أمان، و25% أخرى لإزالة آثار التملح من
التربة. ووفق نتائج الدراسة يستلزم إنتاج كيلوجرام واحد من التمر حوالي 652
لترًا من المياه الزرقاء. في حين تبلغ البصمة المائية الرمادية -التلوث
بالنيتروجين والأملاح- حوالي 978.6 لترًا لكل كيلوجرام من التمر.
يشدد
"برنت كلوثير" -الأستاذ في جامعة "ماساي" في نيوزيلاندا، والباحث المشارك
في الدراسة- على ضرورة تقليل الاعتماد على المياه الزرقاء "الجوفية"؛
للحفاظ على المخزون الجوفي من التلف والنفاد. ويقول "كلوثير" في تصريح
لـ"للعلم": تقترح الدراسة معدلًا للري المستدام للحفاظ على المخزون الجوفي،
مضيفًا: "وجدنا أن هناك قيمة في استخدام المياه المحلاة بالطاقة الشمسية
لتخفيف ملوحة المياه الجوفية".
ويرى
"أريان ي. هوكسترا" -أستاذ إدارة موارد المياه في جامعة "توينتي"
الهولندية، باحث مستقل لم يشارك في الدراسة- أن نتائج الدراسة مهمة على
المستوى النظري في تحسين نظام ري النخيل في الإمارات، لكنه يقلل -في تصريح
لـ"للعلم"- من فرص التطبيق الفعلي لها؛ نظرًا للكلفة الاقتصادية العالية
لتحلية مياه البحر، وشح المياه في الإمارات، وهو ما يقلل -في رأيه- من فرص
وجود زراعة مستدامة في الإطار.
وردًّا
على هذه النقطة يقول علي أكاندا، الأستاذ المساعد في الهندسة المدنية
والبيئية في جامعة "رود آيلاند" الأمريكية، في تصريح لـ"للعلم": "هذه
الدراسة تُعد تحليلًا شاملًا للطلب على المياه وإنتاجها والجدوى الاقتصادية
لإنتاج التمور، واستخدام المياه الجوفية المالحة وتأثيراتها على الأغراض
الزراعية. لقد وجدنا أن هناك فائدة اقتصادية مباشرة لاستخدام المياه
الجوفية المالحة مع تقنيات التخفيف -من ملوحتها- لري النخيل" . ويرى
أن هذا النوع من الدراسات مهم للغاية في المناطق القاحلة؛ لفهم مفهوم
البصمة المائية وحسابها باعتبارها الطريقة الأكثر قابليةً للتطبيق لخيارات
استخدام المياه وإدارة الطلب عليها.
لكن
"أكاندا" -الباحث غير المشارك في الدراسة- يشدد على أن "هناك حاجة إلى
حلول مستدامة للتخلص من المحلول الملحي "الأجاج" الموجود في المياه، بسبب
آثاره البيئية السيئة". ويتفق "كلوثير" مع "أكاندا" بخصوص ضرورة التخلص من
المحلول الملحي، وهو الأمر الذي أوضح الفريق البحثي أنه يعمل حاليًّا على
معالجته في دراسات أخرى جارية.
يختتم "أكاندا" تصريحاته لنا بقوله:
"في جميع أنحاء العالم، وخاصةً في المناطق القاحلة، هناك نمط متزايد
لاستخدام المياه الجوفية؛ إذ أصبحت مصادر المياه السطحية وإمداداتها أقل
أمانًا، هذه الدراسة مهمة للغاية، وتأتي في الوقت المناسب"، مشددًا على أنه
ينبغي أن ننظر إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط للحصول على صورة أفضل عن
البصمة المائية لمزارع التمر ومحاصيل وفواكه أخرى.