اسمحوا للجراثيم بالدخول
تُنظَّف عادةً فئران التجارب نظافة فائقة، إلا أن بعض علماء المناعة يعتقدون
أن بعض الاتساخ قد يجعلها أكثر نفعًا للعِلْم.
في أحد أيام فبراير الدافئة، على
غير العادة، قاد مارك بيرسون سيارته لمدة عشرين دقيقة؛ كي يصل إلى أحد متاجر الحيوانات
الأليفة الكبيرة في مدينة مينيابولس. يذهب بيرسون - الباحث في مختبر لعلم المناعة بجامعة
مينيسوتا - إلى ذلك المتجر كثيرًا؛ ليشتري بعضًا من الفئران. ولذا، فإن أغلب
العاملين في المتجر يعرفونه. وفي ذلك اليوم، طلب بيرسون عشرة فئران، فأخرجهم أحد
الموظفين من داخل صندوق زجاجي. طلب بيرسون الفئران الأصغر حجمًا، لأنها تكون عادةً
أصغر سنًّا، لكنه لم يكن دقيقًا كثيرًا في اختياره؛
إذ إن الفئران كلها تحمل - على الأرجح - ما يريده؛ ألا وهو "الجراثيم".
توشك هذه الفئران على دخول أحد أكثر مختبرات الولايات المتحدة إحكامًا من حيث الرقابة، وهو منشأة مخصصة في الأساس لدراسة مسبِّبات الأمراض الخطيرة، مثل السل، وفيروس الشيكونجونيا. ولا تحمل هذه القوارض - على الأرجح - عدوى خطيرة للإنسان، لكنها تحتوي بالتأكيد على أمراض تُشكّل تهديدًا خطيرًا لمئات الفئران البحثية الأخرى في المبنى.
ستحصل فئران متجر الحيوانات الأليفة على زملاء جدد؛ فسيشارك كل فأر مجموعة من فئران التجارب السوداء اللامعة حياتها، متقاسمًا معها الطعام والماء والفراش، والأهم من ذلك، مسببات الأمراض. وحتى الآن، كانت تُحفَظ فئران التجارب في بيئة فائقة النظافة، وخالية من معظم الأمراض، ولذا، فإن بعض فئران بيرسون سيمرض ويموت، وستطوِّر البقية أجهزة مناعية أقوى، أشبه بأجهزة الفئران البرية، وربما البشر أيضًا.
إنّ ما يفعله بيرسون يخالف القواعد. فقد عمل العلماء لأكثر من 50 عامًا على جعل فئران التجارب أكثر نظافة. وفي معظم المختبرات حاليًا، تُعقَّم أقفاص الحيوانات، وزجاجات المياه، والمواد الغذائية الخاصة بها. ويقول ديفيد ماسوبست، وهو عالِم مناعة في جامعة مينيسوتا ويرأس المختبر الذي يعمل فيه بيرسون: "إننا نبذل مجهودات هائلة حقًّا؛ لتجنيب الفئران الإصابة بأنواع العدوى الطبيعية". وقد جنت هذه الجهود ثمارها؛ فمن خلال التحكم في الآثار المُربِكة لمسببات الأمراض، أصبحت تجارب الفئران أقل عرضة للتفاوت.
تشير مجموعة كبيرة من الدراسات حاليًّا إلى أن هذه النظافة لها ثمن؛ فهي تترك أجهزة المناعة لدى القوارض ناقصة النمو. ففي ظل السعي للوصول إلى فئران نموذجية خالية من العيوب، جعل العلماء هذه المخلوقات نموذجًا أقل تشابهًا مع أجهزة المناعة البشرية، التي تتطوّر في عالَم يعجّ بالميكروبات. ويمكن أن تكون لذلك تداعيات خطيرة على الباحثين الذين يعملون على نقل العلاجات واللقاحات من المختبر إلى العيادات. وعلى الرغم من أنه ليس من الممكن حتى الآن تحديد أوجه بعينها لفشل هذا النهج المعتمِد على النظافة الفائقة لنماذج الفئران المعيارية، فإن ماسوبست يعتقد أن البيئة الاصطناعية لا بد أن يكون لها تأثيرًا ما. ولا يخفى على أحد أن معدل النجاح في نقل العلاجات من الحيوان إلى الإنسان في غاية السوء. فوفقًا لأحد التقديرات1، لُوحِظ أن 90% من الأدوية التي تدخل التجارب الإكلينيكية تفشل. ويقول ماسوبست: "لا بد أن يصيبك الذهول، إذا ما حصلتَ أحيانًا على معلومات مُضلّلة، لمجرد وجودك في بيئة نظيفة".
لهذا يطوّر ماسوبست وباحثون آخرون نماذج أقل نظافة، تعكس - على نحو أفضل - كيفية تطوّر جهاز المناعة في العالَم الطبيعي. فقد أعطت فِرَق من الباحثين فئرانها أنواعًا من العدوى3،2، والبعض الآخر حقنها بميكروبيوم أكثر طبيعية5،4. لكنّ إيواء الفئران الأكثر اتساخًا قد يكون محفوفًا بالمخاطر. يقول آرون إريكسون - الباحث في الميكروبيوم بجامعة ميزوري في مدينة كولومبيا - إن فئران متاجر الحيوانات الأليفة تحمل الكثير من أنواع العدوى، وكأنها جاءت من "دار أيتام بإحدى روايات تشارلز ديكنز". ويهتم القائمون على رعاية حيوانات التجارب بالأمن البيولوجي اهتمامًا جديًّا، وتُعَد الفئران أحد الموارد القيّمة في الأبحاث. ويضيف إريكسون قائلًا: "بالتأكيد، لا أحد يرغب في أن يتفشى مرض ما".
تلويث مُتعمَّد
بدأت مشكلة النظافة تشغل بال ماسوبست منذ أكثر من عقد من الزمان. فقد أذهله مدى الاختلاف بين تكوين جهاز المناعة لدى فئران التجارب، ومثيله لدى البشر. في ذلك الوقت، كان الكثير من الباحثين يعزون هذه الاختلافات إلى أسباب وراثية، إلا أن ماسوبست اشتبه في أن يرجع أحد أسباب اختلاف فئران التجارب إلى المكان الذي تعيش فيه. وتساءل: "هل تكمن المشكلة في الفئران عمومًا؟ أم أنها - في حقيقة الأمر - مشكلة تخص فئران التجارب فقط؟"
وللإجابة على هذا السؤال، بدأ ماسوبست في مقارنة أجهزة المناعة لدى فئران التجارب، ومثيلاتها لدى فئران كان قد اصطادها من الحظائر، أو اشتراها من متاجر الحيوانات الأليفة؛ فوجد أن فئران التجارب كان لديها عدد أقل بكثير من الخلايا الذاكرة التائية المضادة للسرطان والعدوى في دمها، وهي خلايا مناعية كانت قد تعرضت من قبل لمسببات أمراض. وكانت هذه الفئران تفتقر أيضًا - على نحو شبه كامل - للخلايا التائية في الأنسجة الأخرى في الجسم. أما البشر، والفئران البرية، وفئران متاجر الحيوانات الأليفة، فتفيض أجسامها بالخلايا الذاكرة التائية الموجودة في الأنسجة. وبوجه عام، بدت أجهزة المناعة لدى فئران التجارب أقل خبرة، شأنها شأن جهاز مناعة طفل رضيع، بالمقارنة بنظيره لدى شخص بالغ.
اشتبه ماسوبست في أن يكون للعدوى السابقة دور مهم في هذه المسألة. وإذا كان ظنه في محله، فربما يكون قادرًا على إحداث تغييرات في الأجهزة المناعية لفئران التجارب، من خلال تعريضها لمسببات للعدوى. فإذا كانت مشكلة فئران التجارب هي النظافة الفائقة، فهل يمكن أن يجعلها أكثر اتساخًا؟
ابتكر ماسوبست تجربة تبدو بسيطة، فيها يضع فأرًا من فئران متاجر الحيوانات الأليفة داخل قفص مع العديد من فئران التجارب، فتلتقط فئران التجارب ما يحمله فأر المتجر - أيًّا كان، بدءًا من عثّ الفراء، والديدان الدبوسية، وصولًا إلى التهاب الكبد الوبائي الذي يصيب الفئران - لعلها تصبح شبيهة بفأر المتجر من الناحية المناعية. وهذا النهج المتمثّل في التسكين المشترك للفئران يسمح للباحثين بأن "يأخذوا السلالات المستولدة داخليًّا، والمحددة جيدًا من الفئران التي تخضع لعناية فائقة، ويجعلوها تتعرض لظروف أقرب إلى الظروف المناعية الطبيعية التي يمر بها الإنسان"، حسبما يقول ستيفن جيمسون، عالِم المناعة في جامعة مينيسوتا، الذي يتعاون مع ماسوبست.
ولكن كانت هناك عقبة رئيسة واحدة؛ ألا وهي أنه لم يكن لدى الباحثين مكان ليحتفظوا فيه بالقوارض الحاملة للجراثيم. يقول ماسوبست: "بالطبع، لما تكن لدي رغبة في تلويث مستعمرات الفئران الخاصة بزملائي". ويضيف قائلًا إنه عندما ناقش التجربة لأول مرة مع الموظفين المسؤولين عن الموارد الحيوانية، "تسببت في خفقان قلوبهم بلا شك"، لكنْ من حسن الحظ أن الجامعة كانت تعتزم آنذاك بناء مختبر مُحكَم الاحتواء في المبنى الذي يعمل فيه ماسبوست. وصُمِّم هذا المختبر لإجراء أبحاث في المستوى الثالث من السلامة البيولوجية، ما عَنِيَ أنه كان سيحتوي - على نحو آمِن - على مسببات أمراض قد تصيب البشر، لكنه كان سيحول أيضًا دون انتقال مسببات الأمراض الموجودة لدى الفئران إلى فئران أخرى. وفي عام 2013، تمكّن ماسوبست وزملاؤه من الحصول على غرفة في ذلك المختبر. ويعلّق على ذلك قائلًا: "كنت محظوظًا، وكان المكان غير مستغَل، وكان القائمون عليه بحاجة إلى إيرادات، ما جعلهم متقبّلِين الفكرة". واليوم، تضم هذه الغرفة 500 فأر في أقفاص بلاستيكية، يحتوي كلٌّ منها على مجموعة قليلة من فئران التجارب النظيفة، وفأر واحد في حالة رثة، قادِم من متجر الحيوانات الأليفة.
بعد شهر من العيش بجوار فأر متجر الحيوانات الأليفة، اكتسبت فئران التجارب حديثة التلوث الكثير من الخصائص المناعية الموجودة لدى الفئران البرية، أو فئران متاجر الحيوانات الأليفة2، فصارت الخلايا الذاكرة التائية أكثر تمايزًا لديها، مقارنةً بفئران التجارب العادية، كما نشأت لديها خلايا ذاكرة تائية داخل الأنسجة. وبدت فئران التجارب القياسية مشابِهة من الناحية المناعية للأطفال حديثي الولادة من حيث جيناتها النشطة نوعًا ما، لكن أنماط النشاط الجيني لفئران متجر الحيوانات الأليفة ورفاقها في التسكين من فئران التجارب كانت أقرب إلى أنماط النشاط الجيني لدى البشر البالغين. كذلك أظهرت الفئران غير النظيفة مقاومةً أكبر بكثير من الفئران النظيفة، عندما عرّضها الباحثون لعدوى بكتيريا الليستيريا المستوحدةListeria monocytogenes؛ فبعد ثلاثة أيام من التعرّض للعدوى، انخفض عدد البكتيريا التي حملتها هذه الفئران بمقدار يزيد على أربع مراتب أُسية، ما يُعَد استجابة مماثلة لاستجابة فئران التجارب التي سبق تطعيمها ضد هذه البكتيريا.
بعد وقت قصير من بدء ماسوبست العمل في مختبر المستوى الثالث من السلامة البيولوجية، باشر هربرت فيرجن، وهو عالِم مناعة في جامعة واشنطن في سانت لويس بولاية ميزوري، وزملاؤه العملَ بشكل مستقل على مشروع مماثل لفهم أجهزة المناعة لدى فئران التجارب، لكنْ بدلًا من استخدام فئران متاجر الحيوانات الأليفة لنقل العدوى، قرر فيرجن وزملاؤه نقل العدوى بأنفسهم، وهو أسلوب وفَّر تحكمًا أكبر من أسلوب التسكين المختلط للفئران. وتقول تيفاني ريس، التي كانت باحثة في مختبر "فيرجن" في ذلك الوقت، وتعمل الآن أخصائية مناعة فيروسية بالمركز الطبي الجنوبي الغربي، التابع لجامعة تكساس في دالاس: "لكوني تلقيتُ تدريبًا أيضًا لأكون أخصائية فيروسات، فإنني أهتم بمعرفة ماهية مسبب المرض".
اختار فيرجن وزملاؤه أربعة مسببات للأمراض: نوعان من الفيروسات الهربسية، وفيروس إنفلونزا، ودودة معوية تُسمَّى الدودة الطفيلية التي تصيب الأمعاء الدقيقة للفئران بشكل مزمن. وكانت جميع مسببات الأمراض مماثِلة لتلك التي تصيب غالبًا الأطفال في الدول النامية. وأعطى الباحثون الفئران كل عدوى على حدة، وكانوا يتركون فرصة لكل فأر ليتعافى، قبل أن يصيبوه بعدوى جديدة، فيما يشبه كثيرًا الطريقة التي يُصاب بها الإنسان بالعدوى، ثم يتعافى، ثم يُصاب بعدوى جديدة. وتلقت مجموعة أخرى من الفئران تطعيمات وهمية بمحلول ملحي. وكان التحدي المناعي الأخير هو التطعيم ضد الحمى الصفراء، الذي يَستخدِم شكلًا حيًّا - لكنه ضعيف - من الفيروس.
وكما حدث مع فريق ماسوبست، لاحظ هؤلاء الباحثون أيضًا تغييرات مهمة في الفئران التي تمت إصابتها بالعدوى بشكل متوال3، فاختلفت الفئران في أنماط التعبير الجيني واستجابتها للتطعيم. في البداية، كان لدى المجموعتين الاستجابات نفسها للأجسام المضادة، لكنْ بعد شهر واحد، كان لدى الفئران المصابة بالعدوى المترافقة مستويات أقل من الأجسام المضادة. ومن غير الواضح ما إذا كان هذا الاختلاف قد أثَّر على مدى نجاح اللقاح، أم لا. يقول فيرجن: "أعتقِد أن الأمر لم يُحسَم بعد حول ما إذا كانت لهذا الإجراء منفعة محددة". ومع ذلك، فإنه يأمل أن تؤدي فئران التجارب الأكثر تلوثًا إلى فهم يغلب عليه المزيد من الطابع الآلي عن جهاز المناعة.
نداء البرية
تجنب باحثون آخرون متاجر الحيوانات الأليفة في بحثهم عن فئران ملوثة، فقد قاد ستيفان روسارت - وهو عالِم مناعة في المعهد الوطني الأمريكي للسكري وأمراض الجهاز الهضمي والكلى في بيثيسدا بولاية ميريلاند - سيارته لمئات الكيلومترات؛ لزيارة حظائر الخيول في جميع أنحاء الولاية ومقاطعة كولومبيا؛ لجمع الفئران البرية.
كان روسارت قد انضم إلى مختبر عالِمة المناعة باربرا ريهرمان في المعهد الوطني الأمريكي للسكري وأمراض الجهاز الهضمي والكلى في عام 2013، وبدأ الاثنان في دراسة كافة المؤلَّفات التي تتناول الميكروبيوم، وهو مجموعة الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش على كائن حي أكبر حجمًا، وداخله. أظهرت الدراسات أن الميكروبيوم له تأثير كبير على الجهاز المناعي، إلا أن معظم الأوراق البحثية التي توصلا إليها كان مبنيًّا على مقارنة نوعين من فئران التجارب: بعضها يحمل ميكروبيومًا مُكتسَبًا من المختبر، والبعض الآخر لا يحمل أي ميكروبيوم على الإطلاق. ويتساءل روسارت عما يمكن أن يحدث، إذا أعطى فأر مختبر ميكروبيوم بريًّا؟ إنّ ذلك سيحافظ على الخصائص الجينية الأصلية للفأر، لكنه سيجعل وظائف أعضائه أكثر تشابهًا مع الفئران البرية.
كانت لروسارت شروط محددة، يجب توفرها في الفأر البري المتبرع بالميكروبيوم؛ وهي: أن يكون بالغًا، ويشبه جينيًّا فأر التجارب، وخاليًا من مسببات الأمراض؛ كي لا يعرِّض الفئران الأخرى في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية لخطر العدوى. وتقول ريهرمان: "حاولت إقناع روسارت بأن هذه الفكرة البحثية سيئة للغاية، لأنها صعبة التنفيذ جدًّا"، إلا أنه لم يمكن إثناءه عن الفكرة. وعليه، كان روسارت يقود سيارته كل صباح بين 3 و10 حظائر، ويفرغ أكثر من 100 مصيدة فئران، ثم يعود إلى معاهد الصحة الوطنية حاملًا الفئران البرية. بعد ذلك، كان يُشَرِّحها، ويحفظ نسيجها، وبرازها. وفي المساء، كان يكرر الرحلة لجمع المزيد من الفئران، وتزويد مصائد فئران جديدة بطعوم من زبدة الفول السوداني. كان يومه يبدأ في الساعة 4:30 صباحًا، وينتهي في منتصف الليل تقريبًا. واتبع هذا الروتين على مدار سبعة أيام في الأسبوع لمدة شهرين. ويقول: "عندما تفعل ذلك لمدة أسبوع واحد مثلًا، يكون ممتعًا، لكنْ بعد فترة من الزمن، يصبح الأمر شاقًّا للغاية".
في النهاية، اصطاد روسارت أكثر من 800 فأر، واختار مع زملائه ثلاثة فئران، تتوفر فيها الجوانب الوراثية المناسبة، ولا تحمل أي أثر لمسببات أمراض. ونقل الفريق بعد ذلك الميكروبات من براز هذه الفئران إلى فئران حبلى خالية من الجراثيم. وعندما وضعت هذه الفئران صغارها، نقلت هذا الميكروبيوم إليها. قارن بعد ذلك الفريق بين هذه المجموعة من الفئران، وأخرى خالية من الجراثيم، كانت قد اكتسبت ميكروبيومًا من بيئة المختبر المُعقَّمة.
حَقَنَ الباحثون، بعد ذلك، الفئران بفيروس إنفلونزا معدِّل للفئران؛ فنجا 92% من الفئران الحاملة للميكروبيوم البري، في مقابل 17% فقط من الفئران التي تحمل ميكروبيوم المختبر المعياري4. وظهر أيضًا لدى الفئران التي تحمل الميكروبيوم البري مرض أقل حدة، عندما عرَّضها الباحثون لمواد كيميائية مسببة لسرطان القولون. وتقول ريهرمان: "إن الفرضية المثيرة للاهتمام هنا هي أنك إذا جعلتَ فأر تجارب ما أكثر شبهًا بفأر حقيقي في العالم الطبيعي؛ فإنه سيصبح نموذجًا أفضل للبشر الذين يعيشون أيضًا في العالم الطبيعي".
هذا، ولكنّ الزيادة في الخصائص البرية لا تؤدي بالضرورة إلى تعزيز القدرة على مكافحة العدوى. ففي شهر مارس الماضي، أوضحت آندريا جراهام، عالِمة البيئة التطورية بجامعة برينستون في نيوجيرسي، وزملاؤها أن السماح لفئران التجارب باكتساب الخصائص البرية مجددًا يجعلها أكثر عرضة للإصابة بعدوى الديدان5، فقد أعطت جراهام فئران التجارب بمختبرها فرصة التجوّل بحُرِّية في ثمانية حيّزات مُسَيَّجة في الخلاء. وعندما أطلقت الدفعة الأولى، بدأت الفئران على الفور في استكشاف المكان، وحفرت جحورًا، وتذوقت طعام جديد. وتقول جراهام: "كانت السعادة غامرة، وأمضت الفئران بضع ليال دون نوم". وأثّرت الميكروبات التي تعرضت لها هذه الفئران تأثيرًا كبيرًا على قدرتها على السيطرة على بعض أنواع الطفيليات. وكانت الفئران في معمل جراهام تقاوم عادة العدوى الطفيلية بسرعة، لكنْ في الخلاء، "حملت الفئران قدرًا كبيرًا من الديدان خلال أسبوعين فقط"، حسب قول جراهام. ولا يزال الباحثون يحاولون معرفة السبب وراء ذلك، ما قد يساعد في الكشف عن آلية عمل جهاز المناعة في بيئة أكثر طبيعية. يقول روسارت إن الجهاز المناعي ربما يعطي الأولوية لمكافحة الميكروبات القاتلة - الفيروسات والبكتيريا - على أنواع العدوى الأقل خطورة، مثل الديدان. ويضيف: "لا يمكن أن تكون الاستجابة المناعية مثالية ضد كل شيء".
أثارت فكرة النماذج الملوّثة الكثير من الحماس. يقول ألكساندر ماو، وهو رئيس منتجات وخدمات الميكروبيوم في شركة «تاكونيك بايوساينسز»، ومُربِّي ومورِّد حيوانات المختبرات، ويقيم في رينسيلار بنيويورك: "تُعَد هذه الدراسات علامات بارزة من نواحٍ عديدة"، حيث ستسمح هذه الفئران الملوّثة للباحثين "بالنظر في آليات مختلفة للمناعة الوقائية، لا يمكن إيجادها في نموذج فأر التجارب العادي"، حسب قول ماو.
نماذج تُرضِي الجميع
لا يعرف الباحثون حتى الآن أي نماذج الفئران تتوافق على أفضل نحو مع أي أسئلة بحث. ففي تجربة ماسوبست - على سبيل المثال - تتعرض كل مجموعة من فئران التجارب لمجموعة متنوعة من مسببات الأمراض. ويُعَد ذلك سلاحًا ذا حدين، حسب قول ماسوبست، لأن البشر أيضًا مختلفون. أما في تجربة فيرجن، فالفئران تلقَّت مجموعة محددة من مسببات الأمراض، غير أن تأثير ذلك على جهاز المناعة لم يكن قويًّا للغاية.
تقول إليانور رايلي، أخصائية المناعة في جامعة إدنبره بالمملكة المتحدة، إنه لا يمكن لأيّ مِن هذه النماذج أن يقدم صورة طبق الأصل لما يحدث في الطبيعة6. فالفئران البرية تختلف عن فئران التجارب من نواحٍ عديدة؛ فالنظام الغذائي، أو النوع، أو ضوء النهار، أو درجة الحرارة يمكن أن يلعب كل منها دورًا في هذا الاختلاف. وتضيف رايلي: "أعتقد أننا بحاجة إلى العمل بشكل أكبر مع علماء البيئة والحيوان، وأن نلتفت إلى العالم الواقعي. ومن الخطورة تبَنِّي نهج يميل إلى الاختزال والتبسيط نوعًا ما ".
بل وإنّ إعادة إنتاج هذه النسخة المبسطة من الطبيعة البرية في المختبر تمثّل عبئًا كبيرًا، حسب قول فيرجن، الذي يضيف: "لا أعتقد أن الناس لديهم أي شك في أهمية ذلك، إلا أن إجراء التجارب فعليًّا يتطلب قدرًا كبيرًا من البِنْية التحتية". ويتفادى نموذج الميكروبيوم البري العديد من مشكلات التعامل مع مسببات الأمراض، لكن اصطياد الفئران البرية - كما يعرف روسارت جيدًا - له صعوباته الخاصة به.
ولا يزال علينا التأكد بشكل قاطع مما إذا كانت الفئران الملوّثة تمثّل الحالة البشرية بصورة أفضل من فئران التجارب القياسية، وتقدِّم أساسًا أفضل لاختبار الأدوية، أم لا. والتجربة المثالية هي التي تتضمن تناول علاج ما فشل في التجارب الإكلينيكية، وإعادة اختباره في النماذج الجديدة؛ لمعرفة ما إذا كانت النتائج تتطابق مع ما حدث في البشر، أم لا.
هذا بالضبط ما يقوم به فريق ماسوبست، الذي يعمل مع شركتي أدوية. إحدى هاتين الشركتين لديها علاج، فشل في الدراسات التي أُجريت على البشر، وترغب في معرفة ما إذا كان بإمكان الفئران الملوّثة التنبؤ بهذا الفشل، أم لا. أما الشركة الأخرى، فطلبت من ماسوبست أن يستخدم فئرانه لاختبار علاج محتمَل، ثبتت فاعليته مع الفئران النظيفة. وتشير البيانات الأولية إلى أن العلاج لم يكن له تأثير كبير على الفئران الملوّثة.
بدأت مستعمرات الفئران الملوّثة تظهر في أبحاث أخرى؛ فقد حصل دانييل كامبل، أخصائي المناعة في معهد بينارويا للأبحاث في سياتل بواشنطن، على منحة من معاهد الصحة الوطنية الأمريكية في ديسمبر الماضي؛ لإنشاء مجموعته الخاصة من هذه الفئران. يرغب كامبل وزملاؤه في اختبار العلاجات التي طوّروها من أجل المناعة الذاتية، والتي يبدأ فيها جهاز المناعة في مهاجمة الأنسجة السليمة. ويبدو أن العلاجات لهذه الحالات تكون فعالة في الفئران الخالية من مسببات الأمراض، لكنّ "الكثير من هذه العلاجات لم يشهد نجاحًا كبيرًا في الإنسان"، حسب قول كامبل. ويعتقد كامبل أن الفئران الملوّثة، التي لديها جهاز مناعة أكثر تطورًا من فئران التجارب القياسية، قد تكون نموذجًا أكثر واقعية لاختبار هذه العلاجات. فعلى سبيل المثال، قد تسمح هذه الفئران الملوّثة للباحثين بالكشف بشكل أفضل عن الآثار الجانبية غير مرغوب فيها. ويضيف كامبل قائلًا: "ما يقلقنا هو السلامة".
يقول كامبل إن تطبيق نموذج تجربة التسكين المشترك لم يكن سهلًا، لكنه يعتقد أن النتائج تجعله يستحق العناء. ولدى الكثير من زملاء كامبل فرضيات، يودُّون اختبارها باستخدام الفئران الملوّثة، بمجرد أن تصبح المستعمرة جاهزة. ويقول كامبل: "أعتقِد أن هناك اهتمامًا كبيرًا بالموضوع، وأن الجميع سيرغبون في المشاركة".
إذ إن الفئران كلها تحمل - على الأرجح - ما يريده؛ ألا وهو "الجراثيم".
توشك هذه الفئران على دخول أحد أكثر مختبرات الولايات المتحدة إحكامًا من حيث الرقابة، وهو منشأة مخصصة في الأساس لدراسة مسبِّبات الأمراض الخطيرة، مثل السل، وفيروس الشيكونجونيا. ولا تحمل هذه القوارض - على الأرجح - عدوى خطيرة للإنسان، لكنها تحتوي بالتأكيد على أمراض تُشكّل تهديدًا خطيرًا لمئات الفئران البحثية الأخرى في المبنى.
ستحصل فئران متجر الحيوانات الأليفة على زملاء جدد؛ فسيشارك كل فأر مجموعة من فئران التجارب السوداء اللامعة حياتها، متقاسمًا معها الطعام والماء والفراش، والأهم من ذلك، مسببات الأمراض. وحتى الآن، كانت تُحفَظ فئران التجارب في بيئة فائقة النظافة، وخالية من معظم الأمراض، ولذا، فإن بعض فئران بيرسون سيمرض ويموت، وستطوِّر البقية أجهزة مناعية أقوى، أشبه بأجهزة الفئران البرية، وربما البشر أيضًا.
إنّ ما يفعله بيرسون يخالف القواعد. فقد عمل العلماء لأكثر من 50 عامًا على جعل فئران التجارب أكثر نظافة. وفي معظم المختبرات حاليًا، تُعقَّم أقفاص الحيوانات، وزجاجات المياه، والمواد الغذائية الخاصة بها. ويقول ديفيد ماسوبست، وهو عالِم مناعة في جامعة مينيسوتا ويرأس المختبر الذي يعمل فيه بيرسون: "إننا نبذل مجهودات هائلة حقًّا؛ لتجنيب الفئران الإصابة بأنواع العدوى الطبيعية". وقد جنت هذه الجهود ثمارها؛ فمن خلال التحكم في الآثار المُربِكة لمسببات الأمراض، أصبحت تجارب الفئران أقل عرضة للتفاوت.
تشير مجموعة كبيرة من الدراسات حاليًّا إلى أن هذه النظافة لها ثمن؛ فهي تترك أجهزة المناعة لدى القوارض ناقصة النمو. ففي ظل السعي للوصول إلى فئران نموذجية خالية من العيوب، جعل العلماء هذه المخلوقات نموذجًا أقل تشابهًا مع أجهزة المناعة البشرية، التي تتطوّر في عالَم يعجّ بالميكروبات. ويمكن أن تكون لذلك تداعيات خطيرة على الباحثين الذين يعملون على نقل العلاجات واللقاحات من المختبر إلى العيادات. وعلى الرغم من أنه ليس من الممكن حتى الآن تحديد أوجه بعينها لفشل هذا النهج المعتمِد على النظافة الفائقة لنماذج الفئران المعيارية، فإن ماسوبست يعتقد أن البيئة الاصطناعية لا بد أن يكون لها تأثيرًا ما. ولا يخفى على أحد أن معدل النجاح في نقل العلاجات من الحيوان إلى الإنسان في غاية السوء. فوفقًا لأحد التقديرات1، لُوحِظ أن 90% من الأدوية التي تدخل التجارب الإكلينيكية تفشل. ويقول ماسوبست: "لا بد أن يصيبك الذهول، إذا ما حصلتَ أحيانًا على معلومات مُضلّلة، لمجرد وجودك في بيئة نظيفة".
لهذا يطوّر ماسوبست وباحثون آخرون نماذج أقل نظافة، تعكس - على نحو أفضل - كيفية تطوّر جهاز المناعة في العالَم الطبيعي. فقد أعطت فِرَق من الباحثين فئرانها أنواعًا من العدوى3،2، والبعض الآخر حقنها بميكروبيوم أكثر طبيعية5،4. لكنّ إيواء الفئران الأكثر اتساخًا قد يكون محفوفًا بالمخاطر. يقول آرون إريكسون - الباحث في الميكروبيوم بجامعة ميزوري في مدينة كولومبيا - إن فئران متاجر الحيوانات الأليفة تحمل الكثير من أنواع العدوى، وكأنها جاءت من "دار أيتام بإحدى روايات تشارلز ديكنز". ويهتم القائمون على رعاية حيوانات التجارب بالأمن البيولوجي اهتمامًا جديًّا، وتُعَد الفئران أحد الموارد القيّمة في الأبحاث. ويضيف إريكسون قائلًا: "بالتأكيد، لا أحد يرغب في أن يتفشى مرض ما".
تلويث مُتعمَّد
بدأت مشكلة النظافة تشغل بال ماسوبست منذ أكثر من عقد من الزمان. فقد أذهله مدى الاختلاف بين تكوين جهاز المناعة لدى فئران التجارب، ومثيله لدى البشر. في ذلك الوقت، كان الكثير من الباحثين يعزون هذه الاختلافات إلى أسباب وراثية، إلا أن ماسوبست اشتبه في أن يرجع أحد أسباب اختلاف فئران التجارب إلى المكان الذي تعيش فيه. وتساءل: "هل تكمن المشكلة في الفئران عمومًا؟ أم أنها - في حقيقة الأمر - مشكلة تخص فئران التجارب فقط؟"
وللإجابة على هذا السؤال، بدأ ماسوبست في مقارنة أجهزة المناعة لدى فئران التجارب، ومثيلاتها لدى فئران كان قد اصطادها من الحظائر، أو اشتراها من متاجر الحيوانات الأليفة؛ فوجد أن فئران التجارب كان لديها عدد أقل بكثير من الخلايا الذاكرة التائية المضادة للسرطان والعدوى في دمها، وهي خلايا مناعية كانت قد تعرضت من قبل لمسببات أمراض. وكانت هذه الفئران تفتقر أيضًا - على نحو شبه كامل - للخلايا التائية في الأنسجة الأخرى في الجسم. أما البشر، والفئران البرية، وفئران متاجر الحيوانات الأليفة، فتفيض أجسامها بالخلايا الذاكرة التائية الموجودة في الأنسجة. وبوجه عام، بدت أجهزة المناعة لدى فئران التجارب أقل خبرة، شأنها شأن جهاز مناعة طفل رضيع، بالمقارنة بنظيره لدى شخص بالغ.
اشتبه ماسوبست في أن يكون للعدوى السابقة دور مهم في هذه المسألة. وإذا كان ظنه في محله، فربما يكون قادرًا على إحداث تغييرات في الأجهزة المناعية لفئران التجارب، من خلال تعريضها لمسببات للعدوى. فإذا كانت مشكلة فئران التجارب هي النظافة الفائقة، فهل يمكن أن يجعلها أكثر اتساخًا؟
ابتكر ماسوبست تجربة تبدو بسيطة، فيها يضع فأرًا من فئران متاجر الحيوانات الأليفة داخل قفص مع العديد من فئران التجارب، فتلتقط فئران التجارب ما يحمله فأر المتجر - أيًّا كان، بدءًا من عثّ الفراء، والديدان الدبوسية، وصولًا إلى التهاب الكبد الوبائي الذي يصيب الفئران - لعلها تصبح شبيهة بفأر المتجر من الناحية المناعية. وهذا النهج المتمثّل في التسكين المشترك للفئران يسمح للباحثين بأن "يأخذوا السلالات المستولدة داخليًّا، والمحددة جيدًا من الفئران التي تخضع لعناية فائقة، ويجعلوها تتعرض لظروف أقرب إلى الظروف المناعية الطبيعية التي يمر بها الإنسان"، حسبما يقول ستيفن جيمسون، عالِم المناعة في جامعة مينيسوتا، الذي يتعاون مع ماسوبست.
ولكن كانت هناك عقبة رئيسة واحدة؛ ألا وهي أنه لم يكن لدى الباحثين مكان ليحتفظوا فيه بالقوارض الحاملة للجراثيم. يقول ماسوبست: "بالطبع، لما تكن لدي رغبة في تلويث مستعمرات الفئران الخاصة بزملائي". ويضيف قائلًا إنه عندما ناقش التجربة لأول مرة مع الموظفين المسؤولين عن الموارد الحيوانية، "تسببت في خفقان قلوبهم بلا شك"، لكنْ من حسن الحظ أن الجامعة كانت تعتزم آنذاك بناء مختبر مُحكَم الاحتواء في المبنى الذي يعمل فيه ماسبوست. وصُمِّم هذا المختبر لإجراء أبحاث في المستوى الثالث من السلامة البيولوجية، ما عَنِيَ أنه كان سيحتوي - على نحو آمِن - على مسببات أمراض قد تصيب البشر، لكنه كان سيحول أيضًا دون انتقال مسببات الأمراض الموجودة لدى الفئران إلى فئران أخرى. وفي عام 2013، تمكّن ماسوبست وزملاؤه من الحصول على غرفة في ذلك المختبر. ويعلّق على ذلك قائلًا: "كنت محظوظًا، وكان المكان غير مستغَل، وكان القائمون عليه بحاجة إلى إيرادات، ما جعلهم متقبّلِين الفكرة". واليوم، تضم هذه الغرفة 500 فأر في أقفاص بلاستيكية، يحتوي كلٌّ منها على مجموعة قليلة من فئران التجارب النظيفة، وفأر واحد في حالة رثة، قادِم من متجر الحيوانات الأليفة.
بعد شهر من العيش بجوار فأر متجر الحيوانات الأليفة، اكتسبت فئران التجارب حديثة التلوث الكثير من الخصائص المناعية الموجودة لدى الفئران البرية، أو فئران متاجر الحيوانات الأليفة2، فصارت الخلايا الذاكرة التائية أكثر تمايزًا لديها، مقارنةً بفئران التجارب العادية، كما نشأت لديها خلايا ذاكرة تائية داخل الأنسجة. وبدت فئران التجارب القياسية مشابِهة من الناحية المناعية للأطفال حديثي الولادة من حيث جيناتها النشطة نوعًا ما، لكن أنماط النشاط الجيني لفئران متجر الحيوانات الأليفة ورفاقها في التسكين من فئران التجارب كانت أقرب إلى أنماط النشاط الجيني لدى البشر البالغين. كذلك أظهرت الفئران غير النظيفة مقاومةً أكبر بكثير من الفئران النظيفة، عندما عرّضها الباحثون لعدوى بكتيريا الليستيريا المستوحدةListeria monocytogenes؛ فبعد ثلاثة أيام من التعرّض للعدوى، انخفض عدد البكتيريا التي حملتها هذه الفئران بمقدار يزيد على أربع مراتب أُسية، ما يُعَد استجابة مماثلة لاستجابة فئران التجارب التي سبق تطعيمها ضد هذه البكتيريا.
بعد وقت قصير من بدء ماسوبست العمل في مختبر المستوى الثالث من السلامة البيولوجية، باشر هربرت فيرجن، وهو عالِم مناعة في جامعة واشنطن في سانت لويس بولاية ميزوري، وزملاؤه العملَ بشكل مستقل على مشروع مماثل لفهم أجهزة المناعة لدى فئران التجارب، لكنْ بدلًا من استخدام فئران متاجر الحيوانات الأليفة لنقل العدوى، قرر فيرجن وزملاؤه نقل العدوى بأنفسهم، وهو أسلوب وفَّر تحكمًا أكبر من أسلوب التسكين المختلط للفئران. وتقول تيفاني ريس، التي كانت باحثة في مختبر "فيرجن" في ذلك الوقت، وتعمل الآن أخصائية مناعة فيروسية بالمركز الطبي الجنوبي الغربي، التابع لجامعة تكساس في دالاس: "لكوني تلقيتُ تدريبًا أيضًا لأكون أخصائية فيروسات، فإنني أهتم بمعرفة ماهية مسبب المرض".
اختار فيرجن وزملاؤه أربعة مسببات للأمراض: نوعان من الفيروسات الهربسية، وفيروس إنفلونزا، ودودة معوية تُسمَّى الدودة الطفيلية التي تصيب الأمعاء الدقيقة للفئران بشكل مزمن. وكانت جميع مسببات الأمراض مماثِلة لتلك التي تصيب غالبًا الأطفال في الدول النامية. وأعطى الباحثون الفئران كل عدوى على حدة، وكانوا يتركون فرصة لكل فأر ليتعافى، قبل أن يصيبوه بعدوى جديدة، فيما يشبه كثيرًا الطريقة التي يُصاب بها الإنسان بالعدوى، ثم يتعافى، ثم يُصاب بعدوى جديدة. وتلقت مجموعة أخرى من الفئران تطعيمات وهمية بمحلول ملحي. وكان التحدي المناعي الأخير هو التطعيم ضد الحمى الصفراء، الذي يَستخدِم شكلًا حيًّا - لكنه ضعيف - من الفيروس.
وكما حدث مع فريق ماسوبست، لاحظ هؤلاء الباحثون أيضًا تغييرات مهمة في الفئران التي تمت إصابتها بالعدوى بشكل متوال3، فاختلفت الفئران في أنماط التعبير الجيني واستجابتها للتطعيم. في البداية، كان لدى المجموعتين الاستجابات نفسها للأجسام المضادة، لكنْ بعد شهر واحد، كان لدى الفئران المصابة بالعدوى المترافقة مستويات أقل من الأجسام المضادة. ومن غير الواضح ما إذا كان هذا الاختلاف قد أثَّر على مدى نجاح اللقاح، أم لا. يقول فيرجن: "أعتقِد أن الأمر لم يُحسَم بعد حول ما إذا كانت لهذا الإجراء منفعة محددة". ومع ذلك، فإنه يأمل أن تؤدي فئران التجارب الأكثر تلوثًا إلى فهم يغلب عليه المزيد من الطابع الآلي عن جهاز المناعة.
نداء البرية
تجنب باحثون آخرون متاجر الحيوانات الأليفة في بحثهم عن فئران ملوثة، فقد قاد ستيفان روسارت - وهو عالِم مناعة في المعهد الوطني الأمريكي للسكري وأمراض الجهاز الهضمي والكلى في بيثيسدا بولاية ميريلاند - سيارته لمئات الكيلومترات؛ لزيارة حظائر الخيول في جميع أنحاء الولاية ومقاطعة كولومبيا؛ لجمع الفئران البرية.
كان روسارت قد انضم إلى مختبر عالِمة المناعة باربرا ريهرمان في المعهد الوطني الأمريكي للسكري وأمراض الجهاز الهضمي والكلى في عام 2013، وبدأ الاثنان في دراسة كافة المؤلَّفات التي تتناول الميكروبيوم، وهو مجموعة الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش على كائن حي أكبر حجمًا، وداخله. أظهرت الدراسات أن الميكروبيوم له تأثير كبير على الجهاز المناعي، إلا أن معظم الأوراق البحثية التي توصلا إليها كان مبنيًّا على مقارنة نوعين من فئران التجارب: بعضها يحمل ميكروبيومًا مُكتسَبًا من المختبر، والبعض الآخر لا يحمل أي ميكروبيوم على الإطلاق. ويتساءل روسارت عما يمكن أن يحدث، إذا أعطى فأر مختبر ميكروبيوم بريًّا؟ إنّ ذلك سيحافظ على الخصائص الجينية الأصلية للفأر، لكنه سيجعل وظائف أعضائه أكثر تشابهًا مع الفئران البرية.
كانت لروسارت شروط محددة، يجب توفرها في الفأر البري المتبرع بالميكروبيوم؛ وهي: أن يكون بالغًا، ويشبه جينيًّا فأر التجارب، وخاليًا من مسببات الأمراض؛ كي لا يعرِّض الفئران الأخرى في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية لخطر العدوى. وتقول ريهرمان: "حاولت إقناع روسارت بأن هذه الفكرة البحثية سيئة للغاية، لأنها صعبة التنفيذ جدًّا"، إلا أنه لم يمكن إثناءه عن الفكرة. وعليه، كان روسارت يقود سيارته كل صباح بين 3 و10 حظائر، ويفرغ أكثر من 100 مصيدة فئران، ثم يعود إلى معاهد الصحة الوطنية حاملًا الفئران البرية. بعد ذلك، كان يُشَرِّحها، ويحفظ نسيجها، وبرازها. وفي المساء، كان يكرر الرحلة لجمع المزيد من الفئران، وتزويد مصائد فئران جديدة بطعوم من زبدة الفول السوداني. كان يومه يبدأ في الساعة 4:30 صباحًا، وينتهي في منتصف الليل تقريبًا. واتبع هذا الروتين على مدار سبعة أيام في الأسبوع لمدة شهرين. ويقول: "عندما تفعل ذلك لمدة أسبوع واحد مثلًا، يكون ممتعًا، لكنْ بعد فترة من الزمن، يصبح الأمر شاقًّا للغاية".
في النهاية، اصطاد روسارت أكثر من 800 فأر، واختار مع زملائه ثلاثة فئران، تتوفر فيها الجوانب الوراثية المناسبة، ولا تحمل أي أثر لمسببات أمراض. ونقل الفريق بعد ذلك الميكروبات من براز هذه الفئران إلى فئران حبلى خالية من الجراثيم. وعندما وضعت هذه الفئران صغارها، نقلت هذا الميكروبيوم إليها. قارن بعد ذلك الفريق بين هذه المجموعة من الفئران، وأخرى خالية من الجراثيم، كانت قد اكتسبت ميكروبيومًا من بيئة المختبر المُعقَّمة.
حَقَنَ الباحثون، بعد ذلك، الفئران بفيروس إنفلونزا معدِّل للفئران؛ فنجا 92% من الفئران الحاملة للميكروبيوم البري، في مقابل 17% فقط من الفئران التي تحمل ميكروبيوم المختبر المعياري4. وظهر أيضًا لدى الفئران التي تحمل الميكروبيوم البري مرض أقل حدة، عندما عرَّضها الباحثون لمواد كيميائية مسببة لسرطان القولون. وتقول ريهرمان: "إن الفرضية المثيرة للاهتمام هنا هي أنك إذا جعلتَ فأر تجارب ما أكثر شبهًا بفأر حقيقي في العالم الطبيعي؛ فإنه سيصبح نموذجًا أفضل للبشر الذين يعيشون أيضًا في العالم الطبيعي".
هذا، ولكنّ الزيادة في الخصائص البرية لا تؤدي بالضرورة إلى تعزيز القدرة على مكافحة العدوى. ففي شهر مارس الماضي، أوضحت آندريا جراهام، عالِمة البيئة التطورية بجامعة برينستون في نيوجيرسي، وزملاؤها أن السماح لفئران التجارب باكتساب الخصائص البرية مجددًا يجعلها أكثر عرضة للإصابة بعدوى الديدان5، فقد أعطت جراهام فئران التجارب بمختبرها فرصة التجوّل بحُرِّية في ثمانية حيّزات مُسَيَّجة في الخلاء. وعندما أطلقت الدفعة الأولى، بدأت الفئران على الفور في استكشاف المكان، وحفرت جحورًا، وتذوقت طعام جديد. وتقول جراهام: "كانت السعادة غامرة، وأمضت الفئران بضع ليال دون نوم". وأثّرت الميكروبات التي تعرضت لها هذه الفئران تأثيرًا كبيرًا على قدرتها على السيطرة على بعض أنواع الطفيليات. وكانت الفئران في معمل جراهام تقاوم عادة العدوى الطفيلية بسرعة، لكنْ في الخلاء، "حملت الفئران قدرًا كبيرًا من الديدان خلال أسبوعين فقط"، حسب قول جراهام. ولا يزال الباحثون يحاولون معرفة السبب وراء ذلك، ما قد يساعد في الكشف عن آلية عمل جهاز المناعة في بيئة أكثر طبيعية. يقول روسارت إن الجهاز المناعي ربما يعطي الأولوية لمكافحة الميكروبات القاتلة - الفيروسات والبكتيريا - على أنواع العدوى الأقل خطورة، مثل الديدان. ويضيف: "لا يمكن أن تكون الاستجابة المناعية مثالية ضد كل شيء".
أثارت فكرة النماذج الملوّثة الكثير من الحماس. يقول ألكساندر ماو، وهو رئيس منتجات وخدمات الميكروبيوم في شركة «تاكونيك بايوساينسز»، ومُربِّي ومورِّد حيوانات المختبرات، ويقيم في رينسيلار بنيويورك: "تُعَد هذه الدراسات علامات بارزة من نواحٍ عديدة"، حيث ستسمح هذه الفئران الملوّثة للباحثين "بالنظر في آليات مختلفة للمناعة الوقائية، لا يمكن إيجادها في نموذج فأر التجارب العادي"، حسب قول ماو.
نماذج تُرضِي الجميع
لا يعرف الباحثون حتى الآن أي نماذج الفئران تتوافق على أفضل نحو مع أي أسئلة بحث. ففي تجربة ماسوبست - على سبيل المثال - تتعرض كل مجموعة من فئران التجارب لمجموعة متنوعة من مسببات الأمراض. ويُعَد ذلك سلاحًا ذا حدين، حسب قول ماسوبست، لأن البشر أيضًا مختلفون. أما في تجربة فيرجن، فالفئران تلقَّت مجموعة محددة من مسببات الأمراض، غير أن تأثير ذلك على جهاز المناعة لم يكن قويًّا للغاية.
تقول إليانور رايلي، أخصائية المناعة في جامعة إدنبره بالمملكة المتحدة، إنه لا يمكن لأيّ مِن هذه النماذج أن يقدم صورة طبق الأصل لما يحدث في الطبيعة6. فالفئران البرية تختلف عن فئران التجارب من نواحٍ عديدة؛ فالنظام الغذائي، أو النوع، أو ضوء النهار، أو درجة الحرارة يمكن أن يلعب كل منها دورًا في هذا الاختلاف. وتضيف رايلي: "أعتقد أننا بحاجة إلى العمل بشكل أكبر مع علماء البيئة والحيوان، وأن نلتفت إلى العالم الواقعي. ومن الخطورة تبَنِّي نهج يميل إلى الاختزال والتبسيط نوعًا ما ".
بل وإنّ إعادة إنتاج هذه النسخة المبسطة من الطبيعة البرية في المختبر تمثّل عبئًا كبيرًا، حسب قول فيرجن، الذي يضيف: "لا أعتقد أن الناس لديهم أي شك في أهمية ذلك، إلا أن إجراء التجارب فعليًّا يتطلب قدرًا كبيرًا من البِنْية التحتية". ويتفادى نموذج الميكروبيوم البري العديد من مشكلات التعامل مع مسببات الأمراض، لكن اصطياد الفئران البرية - كما يعرف روسارت جيدًا - له صعوباته الخاصة به.
ولا يزال علينا التأكد بشكل قاطع مما إذا كانت الفئران الملوّثة تمثّل الحالة البشرية بصورة أفضل من فئران التجارب القياسية، وتقدِّم أساسًا أفضل لاختبار الأدوية، أم لا. والتجربة المثالية هي التي تتضمن تناول علاج ما فشل في التجارب الإكلينيكية، وإعادة اختباره في النماذج الجديدة؛ لمعرفة ما إذا كانت النتائج تتطابق مع ما حدث في البشر، أم لا.
هذا بالضبط ما يقوم به فريق ماسوبست، الذي يعمل مع شركتي أدوية. إحدى هاتين الشركتين لديها علاج، فشل في الدراسات التي أُجريت على البشر، وترغب في معرفة ما إذا كان بإمكان الفئران الملوّثة التنبؤ بهذا الفشل، أم لا. أما الشركة الأخرى، فطلبت من ماسوبست أن يستخدم فئرانه لاختبار علاج محتمَل، ثبتت فاعليته مع الفئران النظيفة. وتشير البيانات الأولية إلى أن العلاج لم يكن له تأثير كبير على الفئران الملوّثة.
بدأت مستعمرات الفئران الملوّثة تظهر في أبحاث أخرى؛ فقد حصل دانييل كامبل، أخصائي المناعة في معهد بينارويا للأبحاث في سياتل بواشنطن، على منحة من معاهد الصحة الوطنية الأمريكية في ديسمبر الماضي؛ لإنشاء مجموعته الخاصة من هذه الفئران. يرغب كامبل وزملاؤه في اختبار العلاجات التي طوّروها من أجل المناعة الذاتية، والتي يبدأ فيها جهاز المناعة في مهاجمة الأنسجة السليمة. ويبدو أن العلاجات لهذه الحالات تكون فعالة في الفئران الخالية من مسببات الأمراض، لكنّ "الكثير من هذه العلاجات لم يشهد نجاحًا كبيرًا في الإنسان"، حسب قول كامبل. ويعتقد كامبل أن الفئران الملوّثة، التي لديها جهاز مناعة أكثر تطورًا من فئران التجارب القياسية، قد تكون نموذجًا أكثر واقعية لاختبار هذه العلاجات. فعلى سبيل المثال، قد تسمح هذه الفئران الملوّثة للباحثين بالكشف بشكل أفضل عن الآثار الجانبية غير مرغوب فيها. ويضيف كامبل قائلًا: "ما يقلقنا هو السلامة".
يقول كامبل إن تطبيق نموذج تجربة التسكين المشترك لم يكن سهلًا، لكنه يعتقد أن النتائج تجعله يستحق العناء. ولدى الكثير من زملاء كامبل فرضيات، يودُّون اختبارها باستخدام الفئران الملوّثة، بمجرد أن تصبح المستعمرة جاهزة. ويقول كامبل: "أعتقِد أن هناك اهتمامًا كبيرًا بالموضوع، وأن الجميع سيرغبون في المشاركة".
References
- Hay, M., Thomas, D. W., Craighead, J. L., Economides, C. & Rosenthal, J. Nature Biotechnol. 32, 40–51 (2014). | article
- Beura, L. K. et al. Nature532, 512–516 (2016). | article
- Reese, T. A. et al. Cell Host Microbe19, 713–719 (2016). | article
- Rosshart, S. P. et al. Cell171, 1015–1028.e13 (2017). | article
- Leung, J. M. et al. PLoS Biol. 16, e2004108 (2018). | article
- Abolins, S. et al. Nature Commun. 8, 14811 (2017). | article
Post a Comment